*ترجمة وتقديم : لطفيّة الدليمي
ظلّت مفردة ( الثقافة ) واحدة من أكثر المفردات إشكالية على صعيد المفهوم والتطبيقات ، كما ظلّت الدراسات الثقافية – التي تعدُّ حقلاً معرفياً تتداخل فيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا وتأريخ الأفكار واللغويات والفلكلور والسياسات الحكومية المؤسساتية – ميدان تجاذب لم يخفت صدى المعارك الفكرية المحتدمة فيه وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية وحيث أصبحت الثقافة وسيلة من وسائل القوة الناعمة في الحرب الباردة ثمّ إنقلبت سلاحاً من أسلحة العولمة التي تسعى لتوسيع نطاق الرأسماليات الرمزية المدعمة بمصنّعات مادية تُعلي شأن الإقتصاديات المتفوقة وترسّخ سطوتها على الساحة العالمية .
أقدّم في هذا القسم ( وأقسام أخرى ستُنشرُ تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من كتاب ( الثقافة Culture ) المنشور عن جامعة ييل الامريكية العريقة عام 2016 للكاتب البريطانيّ الذائع الصيت ( تيري إيغلتون Terry Eagleton ) ، وهو ناقد ومنظّر أدبيّ وباحث في حقل الدراسات الثقافية وسياسات الثقافة . نشر إيغلتون العديد من الكتب وقد تُرجم بعضها إلى العربية ( ومنها مذكّراته التي نشرتها دار المدى بعنوان ” حارس البوّابة ” عام 2015 ) ، وسبق لتيري ايغلتون أن أصدر كتابا من قبلُ بعنوان ( فكرة الثقافة ) وهو غير كتابنا هذا .
المترجمة
الثقافة والحضارة – تتمّة
في كتابه الموسوم ( ملاحظات نحو تعريف الثقافة Notes Towards the Definition of Culture ) يوسّع إليوت مفهوم الثقافة ويجعلها تشمل ” كلّ الفعاليات والإهتمامات المميّزة لشعبٍ ما ” ، ويمضي إليوت في تعداد عناصر في قائمة تضمُّ أمثلة إنكليزيّة مختلفة تعدّ صوراً نمطيّة للثقافة الإنكليزيّة : يوم ديربي* Derby Day ، هنلي ريغاتّا** Henley Regatta ، لوحة السّهام Dart Board ، جبنة وينسليديل*** Wensleydale Cheese ، الكنائس القوطيّة ، الكرنب المسلوق ، جذور الشمندر المُخلّلة ، موسيقى إلغار**** ،،، الخ . في معرض تعليقه على هذه النخبة غريبة الأطوار من النفائس القوميّة يلاحظُ رايموند وليامز أنها أبعد ماتكون عن تمثيل الفعاليات النموذجية لشعبٍ ما ، وأنّ وعاء إليوت يكتفي بسلق ” الرياضة ، والطعام مع القليل من الفنّ !! ” – الأمر الذي يشير إلى مفهوم أكثر تقادماً وأعظم إيغالاً في التصنيف الحصريّ لمفردات التهذيب الذي تجود به المثاقفة الرفيعة Cultivation ، ثمّ يتساءل وليامز : ألاتشتمل قائمة الفعاليات المميّزة للإنكليز كذلك أشياء مثل صناعة الفولاذ أو المضاربة بالأسهم أو الزراعة المختلطة أو منظومة النقل المميزة في العاصمة لندن ؟ . إليوت ، بكلمات أخرى ، يرى نفسه مُنقاداً لوصف الثقافة على أنّها طريقة كليّة لعيش الحياة ( وهو التعريف الرابع للثقافة أعلاه ) ؛ غير أنّه في واقع الحال يقصُرُ تعريفه لفكرة الثقافة على العادات والممارسات الرمزيّة ( التعريف الثالث أعلاه ) ، وهنا ثمّة معضلة تنشأ على الفور : هل تضمّ ثقافة شعبٍ ما أنماط وجوده المادية والعمليّة أم يجب قصرُها على مفردات الفضاء الرمزيّ ؟
ربّما لن يكون أمراً محسوباً في عِداد الحذلقة المفرِطة إذا ماوضعنا تمييزاً فارقاً بين الثقافة اللابيّة والحضارة اللابيّة : الرّسم ، أطباق الطعام السائدة ، والميول الجنسيّة في منطقة اللابيين ستُصنّف كلّها تحت لافتة ” الثقافة ” ؛ أما نُظُم النقل وأنواع التدفئة المركزيّة فهذه تُصنّف تحت لافتة ” الحضارة ” . الثقافة والحضارة عَنَتا في الأصل الأمر ذاته ؛ لكنْ في العصر الحديث ، وكما سنرى لاحقاً ، فلم يتمّ التفريق بين المفردتيْن فحسب بل تمّ تصويرهما في حقيقة الأمر على أنّهما مفردتان متعاكستان . لطالما نُظِر إلى الألمان ، في سجلّات التأريخ الحديث ، على أنّهم الممثّلون الخُلّص للثقافة ؛ في حين فاز الفرنسيّون بامتياز رفع رايات الحضارة : الألمان لَهُم غوته ، كانت ، مندلسون ؛ في حين أنّ الفرنسيين لهم العطور ، وأطباق الطعام الفاخرة ، و Châteauneuf du pape***** . الألمان لهم توجهات روحانيّة ؛ أما الفرنسيون فأكثر تعقيداً ووفاءً لمتطلّبات الحياة الرغيدة والرخيّة . الفرق بين الألمان والفرنسيين هو كالفرق بين ( فاغنر ) و ( ديور ) ، وإذا ماشئنا الكلام من وجهة نظر الصور النمطيّة فإنّ الألمان كائنات مفرطة العقلنة ، والفرنسيّون كائنات صلدة hard-boiled ( مُغالية في عدم إبداء العواطف والمشاعر الإنسانيّة ، المترجمة ) .
لو شئنا أن نتحدّث من غير تفاصيل محدّدة لأمكننا القول أنّ صناديق البريد هي جزءٌ من الحضارة ؛ أمّا بأيّ لونٍ تُصبَغ ( الأخضر هو المعتمد في جمهوريّة إيرلندا ، على سبيل المثال ) فتلك مسألة تختصّ بها الثقافة . أنتَ في حاجة لإشارات المرور في المجتمعات الحديثة ؛ غير أنّ اللون الأحمر لايستوجبُ أن يشير بذاته إلى إشارة ” قفْ ” مثلما لايستلزم اللون الأخضر الإشارة إلى ” واصلْ مسيرك ” : حصل ، مثلاً ، أثناء الثورة الثقافية في العاصمة الصينيّة بكّين أن دعت الحاجة لتغيير النظام المُعتمد في إشارات المرور . إنّ قَدَراً جيّداً من الثقافة ينطوي على القليل فحسب من الأشياء التي يمكنك فعلُها بالمقارنة مع الكيفيّة التي يمكنك بها فعل هذه الأشياء . يمكن للثقافة أن تشير إلى مجموعة من الأساليب والتقنيّات والطرق الراسخة : ثمة طرقٌ مختلفة لإدارة مصنع للسيارات ، على سبيل المثال ، وهذا هو السبب الدافع للمرء لعقد مقارنة بين ثقافة ( رينو ) وثقافة ( فولكسفاغن ) . إنّ كلّ فردٍ فينا له أقارب ؛ لكنّ موضوعة وجوب أن تتضمّن تعاملاتنا مع بعض هؤلاء الأقارب شيئاً من المزاح – وعلى سبيل العادة المتواترة – لهي موضوعة ثقافيّة في نهاية المطاف . ” الثقافة الشرطويّة ” ( ثقافة البوليس ) لاتتطلّب الإستخدام المفرط للهراوات والرصاص المطّاطي طالما أن جاهزيّة قوات الشرطة تدفع لنشر تلك القوّات عند أقلّ مظاهر الشّغب والتحريض على التمرّد ، وتغطّي تلك الثقافة كافة الوسائل المعتادة لقوات الشرطة والتي تقوم على قاعدة ( فكّر ثمّ تصرّف ) : كيف يشعر أفراد الشرطة ، مثلاً ، تجاه مرتكبي جرائم الإغتصاب ، أو هل ينبغي للضبّاط الصغار تأدية التحية للضبّاط الأعلى مرتبة منهم . الثقافة الأسترالية هي الأخرى قد لاتشتمل على حقيقة عدم وجود تسهيلات لتوفير سيّارات الأجرة في منطقة ينابيع أليس Alice Springs ؛ لكنّ هذه الثقافة ذاتها تشتمل على حفلات الشواء ( باربيكيو ) ، والقواعد الناظمة لكرة القدم وقضاء الوقت البهيج على الشواطئ . أمّا الثقافة البريطانيّة فتمتدُّ من السخرية والتصريحات المكبوحة إلى ممارسة وضع الأنوف البلاستيكيّة الحمراء عند أدنى بارقة فرصة مُتاحة .
ثمة أوقات قد يبدو فيها مصطلح ( الثقافة ) فائضاً وغير ذي أهمية ؛ فالإدّعاء بوجود ثقافة سائدة تعلي شأن التلاعب بنتائج المباريات يعني سيادة التلاعب الفعليّ بنتائج هذه المباريات ، وإذا مادعونا هذا الأمر ” ثقافة ” فإنّه يستلزم ، على كلّ حال ، إعتبار ذلك الأمر مسألة تعوّد ترسخّت عميقاً وبات التعامل معها باعتبارها أمراً واقعاً مفروغاً منه ومحكوماً بسياقات مثبّتة ومحدّدة تحديداً جيّداً . الثقافة بهذا المعنى قد تبدو عنصراً منتمياً لطائفة من العناصر التي تخدم غرضاً توصيفياً خالصاً : عند معاينة الطريقة المحدّدة التي يحيا بها فردٌ ما في الحياة فإنّ هذا الأمر يتضمّن ، على سبيل المثال ، شكلاً من أشكال تمييز تلك الطريقة – وإن كان بطريقة عامة – عن طرق الأفراد الآخرين ، وقد يستلزم هذا الأمر درجة ما من التشكيك في صواب طرق الحياة هذه . إنّ معظم أشكال الهوية الجمعية تعتمد اعتماداً راسخاً على إستبعاد الهويات الأخرى ، وقد يحصل هذا الأمر أحياناً بموجب ضرورة ملزِمة ؛ إذ لايمكنك أن تكون عضواً في الكلية الملكية للتمريض إذا ماكنتَ لاعباً متمرّساً في إدخال السيف عميقاً داخل حلقك ! ؛ لكن قد يكون الإستبعاد احياناً لأسباب أقلّ تمظهراً بالبراءة من المثال السابق : ليس ثمة حاجة – مثلاً – للوحدويين الإيرلنديين الشماليين لرفع رايات القدّيس جورج حيثما لم تكن جحافل متخفية من القوميين الكاثوليك تجوب الشوارع . إنّ فكرة ( الثقافة ) التي قد تبدو في ظاهرها حميدة وغير ذات ضرر قد تحتوي – تبعاً للأمثلة السابقة – على بذور الخلاف مع البيئة الكامنة خارج فضائها ، وبالإضافة لذلك فإنّ ماقد يبدو وصفاً لحقائق خالصة من وجهة نظر شخص ما ( مثل ثقافة النبالة القائمة على ملكية الأرض ) قد لاتبدو على هذا الوصف من وجهة نظر أخرى ( مثلاً من قبل هؤلاء الّذين يفلحون الأرض بأنفسهم ) .
ــــــــــــــــــ
هوامش المترجمة
* يوم ديربي : يوم يشير في العموم إلى فعالية رياضيّة تقوم على منافسة بين فريقين متبارييْن .
** هنلي ريغاتّا : مسابقة للتجديف بالزوارق تجري سنوياً في بلدة هنلي الواقعة على نهر التيمس برعاية ملكة بريطانيا . أقيمت للمرة الأولى عام 1839 .
*** جبنة وينسليديل : جبنة بريطانية شهيرة صُنّعت للمرّة الأولى في بلدة وينسليديل الواقعة شماليّ يوركشاير .
**** سير إدوارد إلغار ( 1857 – 1934 ) : مؤلّف موسيقي بريطانيّ ألّف العديد من الكونشرتوات التي صارت جزءً أصيلاً في التراث الموسيقيّ الكلاسيكيّ العالمي .
***** Châteauneuf du pape : قرية فرنسيّة تقع في منطقة جبال الألب الممتدّة في جنوب شرق فرنسا .
________
*المدى