يوم ملعون ولكن مدهش

خاص- ثقافات

* سفيان سعيداني

ميلاد جديد ، في شتاء يعيد نفسه مرة أخرى ، أسميه فصل الحزن ، نوفمبر الغريب ، و شهر الدموع التي لا ترعوي ، ثمانية و تسعون و تسعمائة و ألف ، ولدت في سنة مات فيها قباني و شعراء كثر ، ربما تركو لي من أشعارهم ما سيجعل لحياتي إيقاعا عميقا ، و ربما فسحوا لي المجال لكي أكون شاهدا على عالم الأدب الغامض ، هكذا أخبرتني أمي في صغري ، ولكن لي سؤال كان يحيرني يومها ، يحيرني كثيرا : هل تراني أبلغ ما بلغوا ؟ هل تراني أكون جديرا أن أحمل مسؤولية الكتابة على عاتقي ؟ هل تراني سأكتب يوما ما ، ما يجعلني أرقى بنفسي لمرتبة المشاعر النبيلة ؟ . لست أدري ! ، ربما نعم ، و ربما لا ، و لكن كثير ممن مررت بهم في حياتي نبهوني لذلك و استبشروا خيرا ، و أولهم أستاذة احتظنتني و آخرهم صديق لم يستطع كتمان مرارة النفس الجائرة ، لم أتخاذل بالتنبؤات الجميلة ، و لم تعجزني الجروح ، فأمسكت بيميني تلك و بشمالي ذاك ، و صنعت أجنحة ربما تحلق بي يوما ما و ربما تخذلني فأهوي منعزلا في بحر غائر من الدموع ، و ربما الدنيا بكت يومها على فراقهم ، و نبأتني بمصيري المحزون ، هذا أنا ، و هذه هي السحب السوداء تفلق بدموعها الأجواء المتقلبة ، المطر الذي عشقته في صغري هو اليوم إيقاع هذه القصة .

على أن الذي دفعني لهذه المقدمات القاسية حزن دفين تزاحم في صدري فأثخن روحي و أثقلها نحيبا ، و هموم تحاصرتني فلم يتسنَ لي سوى أن أواجهها ، لم أتعلم الفرار في صغري و لم أنشأ على مبدإ الإنسحاب و لكنني فكرت فيه لبرهة و نهاية القرار أنني لم أستطع سوى خوض المعركة الدامية ، بت ليلتي ممحوق الخاطر ، و الدعوة وصلتني متأخرة ، قرأت فحوى الرسالة ، هم يريدون مني أن ألعب دورا في إحدى العروض الغفيرة ، لم أفرح ، إذ أنني كنت موقنا في قرارة نفسي من أنني سأفسد بل و سأعكر صفو تلك المسرحية الرائعة ، لا شك أنني تحمست قليلا و لكن الدور لم يعجبني أصلا مع أنني مولع إلى حد لا يمكن وصفه بتلك المأساة الشكسبيرية ، و تكالبت علي هموم أخرى فصرت نافذة لا تخالجها سوى الحيرة و تقتحمها المحازن دون إذن أو تورع  . حسمت ذاك الموضوع البسيط فاتصلت بمخرج العرض و كان أحد أساتذتي القدامى المقربين ،  و اعتذرت له ، ثم عدت إلى فراشي و قرأت طويلا حتى تاه عقلي ، ثم نمت متناسيا الكتاب فوق صدري ، لم أشعر إلا بصوت رقيق عند الفجر يوقظني ، و كانت أمي ، حييتها بتحيتي الصباحية المعتادة و نهضت تائه الذهن ، و لم أكن في نشاطي التام إذ أن الرتابة تأخذ مجراها كل صباح فلا تكون مدعاة للإهتمام ، انتضرت الحافلة على قارعة الطريق ، و ركبت بتخاذل ، بدت علامات الحيرة واضحة جدا ، و لكنني تداركت فهدأت من روعي قليلا ، كل الأصدقاء كعادتهم ينتظرون محادثتي ، إذ لا يجدون في كلامي سوى نفع و فائدة ، و مزاحي ليس يؤذيهم بل يزيدهم طربا على طرب ، و لكنهم وجدوا جسما مطرقا لا حراك فيه مستندا إلى النافذة يتأمل و لا يتأمل و يرمي ببصره خارجا و لا يرمي فصمتوا جميعا و تركوني لحالي ، إذ أنني أمقت الحديث في غير وقته و لا أحبذ أن يشاطرني همومي شخص إلا نادرا ، مرت الدقائق ثقيلة جدا ، و كنت أرى الجميع في الحافلة على أشكال أطياف سابحة تتحدث و تمرح ، يا لها من لحظات غريبة مع تلك التموجات و الهزات العنيفة  .

سرت نحو المعهد بخطى رصينة أقلب بصري في شوارع بوسالم الضيقة ، هذه المقاهي تشهد أن لي فيها ذكريات طويلة ، ذكريات رائعة ، إن المقهى ملاذ المفكرين أحيانا ، فيها ينطوي المهموم على نفسه ، تواسيه قهوته و سيجارته الملتهبة و لربما وجد من الناس من يتفهمه فيصير للحديث ملاذ آخر .

وقفت أمام قاعة الدرس الخاوية ، أنتظر المدرس بفارغ الصبر كأي أشغل عقلي بما سيهبني إياه من ثقافة و معرفة جديدة ، عندها أتت صديقة سررت بذكرها حقا ، كما أنني سررت برؤيتها حينها ، سألتني عن حالي فأجبت متصنعا كل طمأنينة ، ثم هتفت بصوت رقيق تتمنى لي يوم ميلاد سعيد ، استغربت ، نظرت إلى عينيها المرهفتين مليا فلم أجد فيهما ما يحيل إلى الدعابة ، ثم تداركت فعلمت أنه يوم ميلادي حقا ، ضحكت في نفسي و شكرتها ، فضحكت هي بدورها مندهشة ، لكم هو عجيب أمري حقا ، هل يعقل هذا ! ، و لكن هذه هي الحقيقة ، لقد نسيت أمر نفسي فنسيت يوم مولدي أصلا ، شكرتها في سري طويلا ، هي فتاة رائعة ، راقية الفكر و مرهفة الحس ، أنا أعرفها جيدا ، هي بالنسبة لي رمز المرأة المثالية ، من وراء صمتها تكمن عبقرية فذة ، إذا ما تكلمت انسابت الحروف من فمها تزدان رقة و جمالا ، و إذا ما فكرت علاها الوقار  ، متمردة لا كغيرها من الفتيات ، و غامضة بعض الشيء ، مثقفة فالحديث معها جميل ، هي رمز المرأة الإستثنائية ، و لعل هذه السطور لا توفيها حقها ، و لو طلب مني أن أتحدث عنها فسيطول الحديث كثيرا و لن يسعفني لا الوقت و لا الحبر ، تحدثنا قليلا عن توافه الحياة ، ضحكت قليلا ثم ابتسمت فارعوى الهم لبرهة ، و لكن ما أن ودعتني برقة لتمضي إلى شأنها حتى تركتني أتقلب من جديد في حيرة غائرة .

أتممت دراستي ، خففت عني التهاني قليلا ثم عدت إلى المنزل عشيا ، ما أن فتحت الباب المزخرف حتى تعالت الهتافات و دوى الصياح و غردت الموسيقى ، العائلة كلها محيطة بطاولة ضخمة يحتفلون ، حقيقة أنا لا أعير اهتماما لهذه المناسبات و لكن ما كان مني سوى مشاطرتهم تلك الأجواء الرائعة ، ضحكنا طويلا ، تجاذبنا أطراف الحديث ، قطعت صفو حديثهم بتأملاتي الغريبة ، و بمزاحي الذي يثير الضحك ، تشاجرت مع أبناء عمي الصغار نلتمس عبثا و لهوا ، و قبلت جبين جدتي و ترنمت بتلك العبارة التي انبعثت من فم أمي : ” آه يا سفيان ، كبرت بسرعة ! ، بالأمس كنت صغيرا نحملك بين أذرعنا و نقبلك ، أما اليوم فقد صرت رجلا ، تمضي إلى شؤون عميقة و ترسم مستقبلا لا نعلم عن تفاصيله شيئا ، و لكن هل تعلم أن الغموض هو الشيء الرائع فيك ” هكذا تكلمت فلم أفهم منها شيئا ، و لكنني قبلتها فنزلت من عينها دمعة مهراقة ، كل عيد ميلاد نفس الموقف العجيب ، سألتها عن سر بكائها فقالت : ” إنك تكبر بسرعة و أخشى أن تفرقنا الأيام يوما ما ” فأجيبها بنوع من التذمر : ” دعينا من هذه الخرافات و لنتحتفل ” فتضحك بشدة و تقبلني ، أما عن أبي فقد أفحمني بدعابته التي لا تنتهي ، و ما كدت أنفخ على الشموع المتراقصة حتى دوى ضجيج سيارة بالخارج ، تفحص أبي الأمر فإذا به أستاذي القديم أتى ليقنعني بأداء الدور ، إذ أنهم لم يجدوا معوضا ثم إنني أعلم جيدا بل و أحفض ذلك النص الذي صار ملعونا الآن ، استحييت منه فاعتذرت من العائلة و تركتها في صخبها و اتجهنا صوب المدينة ، ركبت مع ثلة من الممثلين ، منهم أشخاص أعرفهم و منهم من لا أعرفه إطلاقا ، و هكذا أنا أسير طول اليوم لا أدري لنفسي قرارا ، تتقاذفني الأقدار هنا و هناك و لا تخلو حياتي من صخب و حركة ، على الرغم من أنني أشتهي الهدوء و الكينونة أكثر من أي أمر آخر ، دخلنا القاعة المتسعة ، ارتعت من ذاك الجمهور الغفير الذي ملأ مدارج القاعة و كراسيها ، تراقصت الأضواء في العتمات ، الناس هنا أتوا ليشاهدوا العرض و لا شك ، و لكنني لاحظت رجالا نائمين يغطون في نوم عميق ، ربما فروا من منازلهم يتقون الصخب ، و خاصة إذا ما كانت زوجاتهم لا يهدأ لهن لسان ، و لاحظت شبابا يدخنون و شيوخا بفارغ الصبر ينتظرون و منهم من شغل نفسه بجريدة لكي يكسر الوقت .

دخلت حجرة الملابس و ارتديت ذاك الرداء الكلاسيكي العتيق الذي عصفت به الممالك القديمة و لفحته بمسحة من العراقة و ارتديت تلك العباءة المرصعة بنقوش مخملية و وضعت تلك القبعة التي عليها ريشة طويلة بيضاء تخالجها حمرة ، و تأهبت ، ثم سرت بمفردي في الردهة الطويلة أفكر بيني و بين نفسي ، دخلنا الخشبة و قد حضر الديكور لتلك المملكة القديمة ، رفع الستار و ابتدأ العرض ، أمعنت قليلا في الجمهور المتحمس و في تلك اللجنة التي تنتظر هفوة من الممثلين و تفحصت عيني أستاذي اللتان كانتا مطمئنتان تنبعث منهما سمفونيات ملحمية تشجعني ، سار العرض على ما يرام ، أديت جميع الفصول ، ترنحت يمنة و يسرة و هز صوتي الجهوري الأرجاء و احتد النزاع بيني و بين الشخصيات المعرقلة ، انصهرت تماما في الدور ، حتى أقنعت المشاهدين ، فلم أرى و لو عينا واحدة تزيح نظرها عن الخشبة ، و لكن في ذلك الفصل الإختتامي ، عندما رفعت زجاجة السم الصغيرة لأتجرعها ، إذ بي أضربها على الخشبة حتى انكسرت ، دهش الجميع ، و لمعت عينا أفراد اللجنة و بهت أستاذي ، و لكن الجمهور ظل يتابع ، قالت صاحبة دور ” جولييت ” قد كانت تنتظر في الديكور أمام شرفة عالية ، تنتظر قدومي لننتحرا سويا ، قالت : ” روميو ! ” و كانت مستغربة تبحث عن تفسير يقنعها ، تفسير يبرر خروجي عن النص ، نظرت إلى الجمهور مشهرا سبابتي نحوهم و قلت بصوت مرتفع : ” ماذا عساكم تنتظرون ؟ ، تنتظرون مني أن أشرب السم أنا وهذه الفتاة لكي يروقكم الأمر فتشفقون لحال المحبين ؟! “

ثم نظرت إليها هي و قد لاحظت استغرابا علا وجهها ، فقالت : ” سيأتي أهلي عما قليل ، و إن وجدوك سيقتلونك ، يجب أن تنهي هذا الأمر ، أرجوك يا روميو “

فقلت متضاحكا ” أنا لست روميو أيتها الغبية ، و لست أبالي بأهلك و لا بقبيلتك أجمعين ما دمت أحببتك ، الحب ليس للجبناء يا امرأة ، دعك من سيرورة المأساة الضاغنة ، و لنتمرد على الأحكام التي قيدتنا ، لن نموت اليوم ، بل سنحيا “

ابتسمت ، إذ أن النهايات الحزينة لا تروقها و لا تحبذ أن تكون ضحية إحدى هذه المأساويات المتوغلة بؤسا و شقاء

قالت و قد راقها الخروج عن النص : ” هل سنحيا بالحب يا بول ! “

فقلت لها : ” الحياة هي الأبدية لمن يعشق ، لا بد أن نترك هذا البلاط المعتم ، إما أن نكون و إما أن لا نكون “

و قفزت حينها من الشرفة فتحاملتها بين ذراعي و انبعثت الموسيقى الإختتامية و لكننا لم نمت في الواقع كما أملت علينا المسرحية بل رقصنا طويلا تحت ظلال ديكور تلك الغابة ، ثم حيينا الجمهور و كنا نعلم أن توبيخا قاسيا ينتظرنا خاصة من الأستاذ الذي لم تفتر ملامحه عن شيء من شدة الذهول ، و لاحظنا أن تلك اللجنة تحمست إذ وجدت مهزلة تبدع فيها نقدا لاذعا ، و لكن ما كدنا ننهي التحية حتى اهتز الجمهور صخبا و تعالت الهتافات و صفقوا كثيرا ، ثم أسدل الستار و عدنا أدراجنا ننتظر مآلنا المزري إذ عبثنا بالمسرحية شر عبث ، و لكن اللجنة أبدت رضا تاما عن سيرورة المسرحية و بالأحرى تيقنت أنا و هي و أستاذي من أن أفراد اللجنة لم يقرأ و لو واحد منهم مسرحية شكسبير هذه ، فضخكنا و لم نستطع كتمان ذلك ، ناولونا شهائد تقدير فتسلمناها و رحبنا بهم ، و ودعتني الفتاة و كان آخر عهدي بها ابتسامة جميلة ، عدت إلى حجرة الملابس غيرت ثيابي و عدت مع أستاذي الذي أبدى فخرا لذلك التمرد إذ هو ذاته انبهر بتلك الإرتجالية الغريبة التي كنت و لازلت أعتبرها ضربا من العبث ، سبق و علمت أنني سأعكر صفو المسرحية ، و لكن يا حبذ ذلك التعكير الذي يفضي إلى النجاح .

ضحكنا طويلا و تحدثنا في أمور شتى حول الأدب ، أوصلني و كنت أخمن في تلك الشموع التي سألقاها ذابلة و في الأهل الذين انتظروني حتى خالجهم الملل فناموا ، و لكن ما أن دفعت الباب المزخرف مرة ثانية حتى تعالى الصياح و العبث و عادت الموسيقى و اعتضرني أبناء عمي الصغار بشغبهم المعتاد ، و وحدت الأهل جالسين ، علمت أنها ليلة ستطول و لكنها كانت رائعة ، لكم هو ملعون ذلك اليوم و لكنه حقيقة كان يوما استثنائيا ، كان يوما رائعا .

 بوسالم : 2017/11/24

كاتب تونسي

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *