وكاد الشاعر أن يكون نبيا (٢)

خاص- ثقافات

*علي بونوا

وأنا أقرأ أورادي الليلية من شعر المعلقات، كدأبي كل ليلة، لم أدر كم غفوت بين بيت وبيت ولعلي بين صدر وعجز نمت.. وكان النعاس يهدهد جفوني إذ وقعت عيناي على اسم عبلة في مطلع معلقة عنترة:

هلْ غادرَ الشُّعراءُ منْ متردَّم *** أم هلْ عرفتَ الدارَ بعدَ توهم

يا دارَ عَبلَةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي *** وَعَمي صَباحاً دارَ عَبلَةَ وَاِسلَمي

فرأيت فجأة، أن بابا من هباء ينفتح أمام عيوني النائمة وخرج منه، منتصب القامة ومرفوع الهامة، رجل شديد السواد وغريب اللباس كأنه فارس عربي هارب من إحدى مسرحيات جد الفنون المغربية _أبو أبي الفنون_ الراحل الطيب الصديقي، حتى خلت أنه خرج علي من شاشة التلفاز.

قلت: إني أعوذ بالرحمان منك إن كنت جنيا. قال: إنما أنا حبيب عبلة لأذب عن دارها التي أسكنتها إياها في بيتي ذاك الذي لم يقربه قبل هذا أحد _مثلما فعلت أنت_ وكانت معاشر الشعراء والقراء قبلك إنما تمر عليه مرور الكرام، حتى جئت أنت تنام على أعتابه.. فويحك من تكون ومن أي قبائل العرب أنت؟

فلما عرفت أنه عنترة قد انبعث من ذكرى عبلته فجاء والغيرة تركب صهوته، أجبته: بل سلني، يا ابن شداد، من أي القرون أنا وماذا طرأ على الشعر بعدك! ودون أن يعقب رد سيفه إلى غمده وأناخ ناقة أنفته العبسية فانطلق لساني يخاطبه وآذانه صاغية:

“إنك الآن وإيانا، في القرن الأول بعد العشرين وإنا فيه لمن المحرومين: أهلنا لا يقرأون وإن قرأوا لا يشعرون، وشعراءنا لم يعد يتبعهم الغاوون ولا هم يوزنون. لقد أمسى خاصة القوم عندنا، يا فارس الشعراء، يفضلون كل منثور على سائر الشعر ولا يسمعون الشعر إلا حين يغنيه المغنون في الحانات ذوات الأعلام الحمر وهم سكارى تتناوبهم أكواب الخمر حتى لا يكادون يفقهون قولا، شعرا كان أم نثرا، إلا قيلا شرابا شرابا.”

وفي هاته الأثناء، سمعنا صوتا ثملا يردد:

أَثْني على الخمرِ بآلائها *** و سَمِّيها أحسَنَ أسمائها

فعرفت أن الهاتف يعلمنا بقدوم “أبو نواس” جاء _بعد توبته المشهورة كموتته_ يعظنا في الخمر على منهاج المذاهب الأربعة حتى ظننته سينهر حديثنا ويقول فينا ما لم يقله مالك في الخمر.. فإذا به يحيينا ورائحة الفودكا الروسية تنبعث منه كأنه تطيب بها قبل أن ينهض من قبره بتل اليهود في بغداد.. ولما رأى عنترة عرفه رغم أنف الثمالة وقال لي:

“يا فتى.. ولم لا تخبر عنترة، بدل الخوض في عرض الخمرة _كأنه يغار عليها من فم المتكلم_ ماذا طرأ على الشعر وعروضه في قرنكم هذا والذي يسبقه. أخبره عن لوركا ونيرودا وبورخيس..” قاطعته معقبا أنما أشعار هؤلاء ليست بالمنظومة لا على طويل ولا مديد ولا على كامل.. “ثم إنك يا أبا نواس سكران لا تدري ما تقول”.. وقاطعني قائلا:

“دع عنك سكري فإن الخمر إغواء.. وأخبر ضيفك ما فعلت الأعاجم بالشعر وكيف أضحى في العرب بعد أن تحول سوق عكاظ إلى سوبر ماركت.”

قالها كأنه استفاق من سكره العباسي ليدخل في غيبوبة الحداثة (أو هكذا تصورته) قبل أن يغادر المكان والهباء يتبعه؛ وتهيأ لي أن شبح أدونيس كان يرافقه وهو يمسك بقنينة ويسكي فرنسية صفراء فاقع لونها.. إذ يسأله أبو نواس: “وإذا المنثورة سئلت بأي وزن نظمت”.. فيجيبه أودنيس: “لا أدري، ربما أسأل لك حفدة بودلير ورامبو ثم أجيبك، يا مولانا.”

انفتحت عيناي ووجدت أمامي سحابة من هباء وهي تتبخر وتختفي بين خيوط الفجر، البيض والسود، في مشهد سريالي كأنها لوحة تكعيبية.. فقلت في نفسي لعلي في المنامة الآتية أفعل ما طلب مني أبو نواس، ثم وضعت ديوان ابن شداد جانبا وتدثرت وعدت إلى نومي.

يتبع…

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *