«أحوال» الهوس الديني

*د. سعيد توفيق

حينما نتأمل حالة الوعي الديني في ثقافتنا الإسلامية الراهنة، فمن السهل أن نكتشف على الفور التحول الهائل والمخيف الذي طرأ على الوعي الديني؛ لأن الوعي بالدين أصبح وعياً مزيفاً يجرد الدين من جوهره ومن قيمه: فهو يجرده من جوهره باعتباره صلة روحية بين الإنسان الفرد وربه (فالأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى)، وهو يجرده من قيمه الأساسية التي تقوم على مكارم الأخلاق في سائر المعاملات الإنسانية (فالدين المعاملة).

أرى أن جوهر الدين الإسلامي كله يتلخص في هذين المبدأين اللذين وردا في حديث رسول الإسلام الكريم. لن يجد المتأمل الواعي أي صعوبة في رصد تحول الوعي الديني إلى حالة من الزيف تنظر إلى الدين على أنه مجرد رموز وشعارات وأوهام لا صلة لها بروح الدين، وفي سبيل ذلك يتفرقون شيعاً، بل يتناحرون ويقتتلون من أجلها، لا فيما بينهم فحسب، بل مع الإنسانية ذاتها.. مع كل إنسان مختلف عن دينهم الذي صنعته أوهامهم الدينية. يكفي المتأمل الواعي أن يسترجع الحالة الدينية في عالمنا العربي وحده من خلال استدعاء ذكريات الطفولة والشباب، ومن خلال الوثائق التاريخية والأفلام السينمائية، وغير ذلك؛ ليرى كيف كان الدين يسكن وعي الناس من دون ضجيج أو تظاهر أو تناحر، وتتجلى قيمه الروحية والأخلاقية النبيلة في سلوكهم وأعمالهم.
وبوسعنا أن نصف بعض تجليات هذه الحالة من تزييف الوعي الديني التي تبلغ حد «الهوس» في الثقافة الإسلامية الراهنة، فيما يلي:

في وسائل التواصل

هي أبرز التجليات المباشرة اللحظية التي تجسد بوضوح حالة تدهور أو غياب الوعي الديني واستغراقه في وعي زائف. فلا يمكن أن تخلو صفحتك على مواقع التواصل الاجتماعي مثل «الفيس بوك» و«الواتس آب» من تلقي سيل من الشعارات والرسائل الدينية. بعض هذه الرسائل عبارة عن دعاء يطالبك المُرسِل، ويستحلفك بالله، أن ترسله إلى عموم أصدقائك على الصفحة الإلكترونية، أو ترسله إلى عدد كبير من الناس، يحدده الشخص المُرسِل، وإلا سوف تصيبك اللعنات والعقاب الإلهي. كما أصبحنا نجد الآن صوراً مرسلة بأشكال متنوعة من الكتابة كل يوم جمعة، تقول لنا: «جمعة مباركة»، مصحوبة أحيانًا بأدعية أشبه بتعاويذ لدرء الذنب والعقاب واغتنام الدنيا والآخرة. أما أحدث أشكال الهوس الديني في وسائل التواصل الاجتماعي، فهي ما يمكن تسميته «حالة سيلفي الكعبة»، وهي تلك الصور التي يبعث بها بعض زوار بيت الله الحرام، يصورون فيها أنفسهم ومن ورائهم الكعبة، أو أثناء أداء مشاعر الحج، على نحو يعكس الانفصال بين صاحب الصورة وقدسية المشهد الذي ينبغي أن يكون مستغرقًا فيه، وكأن هذه الحالة الدينية المقدسة قد تحولت عنده إلى مجرد صورة يتباهى بها أو يحتفظ بها ضمن غيرها من الصور الخاصة بشؤون الدنيا والحياة اليومية.

أيقنت بعد طول تأمل من أن مثل هذه الحالات هي نتاج لحالة أكثر عمقاً تتعلق بتزييف الوعي الديني في نفوس الناس وعقولهم؛ فأداء الشعائر والمناسك يكفي وحده لإثبات التدين وحُسن الخُلق والاغتسال من الذنوب، بحيث تصبح صفحتنا بيضاء من جديد كلما صلينا الجمعة أو صمنا رمضان أو أدينا مناسك العمرة والحج. ولا يهم ما نفعله بعد ذلك، ما دمنا قد أدينا طقس الشعيرة الدينية. وبذلك يصبح الوعي الديني وعيًا صوريًّا أو افتراضيًّا منفصلًا عن الفعل والتحقق الواقعي.

في الشعارات الدينية

تلك من أعجب الحالات في واقعنا اليومي المعيش؛ فقد أصبحنا نجد الشعارات الدينية في شكل مُلصقات إعلانية في كل مكان. ومن ذلك – على سبيل المثال – منطوق الشهادة: «لا إله إلا الله، محمد رسول الله». انتشر هذا الملصق الإعلاني في مصر، وبصورة أقل في بعض البلدان الإسلامية الأخرى على الزجاج الخلفي للسيارات، بعد صدور الصور المسيئة لرسول الإسلام الكريم في صحيفة دانماركية. حدث هذا منذ سنوات عديدة، ولكن الملصق الإعلاني لا يزال موجوداً. كما ينتشر ملصق آخر يقول: «هل صليت على النبي؟» في مدخل الإدارات والمصالح الحكومية التي تتعامل مع المواطنين. تأملت مسلك هؤلاء الذين يلصقون تلك الإعلانات، فوجدتهم أبعد ما يكونوا عن الدين، بل مجرد أناس مهووسين بالشعارات الدينية: فأصحاب الملصق الإعلاني الديني على الزجاج الخلفي للسيارة هم أبعد الناس عن الالتزام بآداب المرور، وأصحاب الملصق الديني في مداخل إداراتهم التي يعملون بها هم أبعد الناس عن الالتزام بقيمة العمل، وكأنهم جميعاً قد وجدوا في هذه الشعارات ما يضمن لهم تميزهم على غيرهم من المواطنين من سائر خلق الله، ويكفل لهم خرق القواعد التي ينبغي أن يراعيها الجميع، متصورين أنهم الأقرب إلى الله من خلال التمسك بهذه الشعارات وإعلانها. وكل هذه الحالات وأشباهها تختزل الدين في المظهر لا المخبر، وفي الرموز والشعارات لا السلوك والمعاملات، وكأن هذه الرموز والشعارات بمثابة تذاكر دخول إلى الجنة والبرهنة على هذا الإيمان المزيف.

ميكروفون الجامع

«ميكروفون الجامع» هو عنوان مقال لأستاذنا الدكتور فؤاد زكريا (رحمه الله)، قمت بإعادة نشره في أكتوبر 2014 ضمن الإصدار الثاني لمجلة «الفكر المعاصر» التي كنت أترأس تحريرها. وهذا المقال كاشف عن شكل من أشكال حالة الهوس الديني التي نتحدث عنها في مقالنا هذا. فالميكروفون أو مكبر الصوت هو اختراع غربي، لم يجد السلفيون غضاضة في استخدامه، برغم أنهم يتمسكون برفض كل جديد باعتباره بدعة. ومع ذلك، فإن هذا الميكروفون، الذي هو من وجهة نظرهم الدينية بدعة لم يعرفها الأوائل ولا معظم الأواخر، لا يُستَخدَم من أجل الغاية المرادة منه، بل يُستخدَم من أجل إقلاق راحة الإنسان وحرمانه من النوم ومن الهدوء النفسي والعصبي الذي هو شرط ضروري لاستمرار قدرته الإنتاجية. ولذلك يقول فؤاد زكريا: «لو تأملنا تلك الأصوات المتداخلة والمتنافرة، التي تقضي على جلال فكرة الأذان ذاتها، والتي تنبعث من عشرات الميكروفونات وتحاصر الإنسان بضجيج يصعب تمييز كلماته؛ لو تأملنا تفنن بعض المساجد في رفع أصوات ميكروفوناتها وإطالة فترة أذان الفجر وما يليها من مدائح وتسابيح، من دون رحمة لمريض في مستشفى قريب لا شفاء له إلا مع النوم المريح، أو لعامل يود أن ينال قسطًا كافيًا من الراحة حتى يستطيع أن يبدأ يومه الجديد بعمل مثمر يعود على أبناء مجتمعه وعقيدته بالخير ويساهم في تقدم أمته – لو تأملنا ذلك، لأدركنا مدى تشويهنا لنتائج التكنولوجيا من دون فهم لأغراضها الحقيقية، ولتبين لنا أننا يمكن أن نستخدم المخترعات الحديثة، لا من أجل القضاء على التخلف، بل من أجل تأكيده ومضاعفته». ولذلك فإن فؤاد زكريا ينتهي من ذلك إلى القول بأن «حالة ميكروفون الجامع» هي بمثابة «تلخيص بسيط، واضح، مكثف، لأزمتنا الحضارية».

وبوسعي القول بأن هذا لم يكن حال «ميكروفون الجامع» منذ حوالى نصف قرن مضى وما قبله، إذ كان الشيخ الذي يرفع الأذان حلو الصوت، وما زلت أذكر صوت الشعشاعي (الصغير) حينما يرفع أذان الفجر من مسجد السيدة زينب بالقاهرة.. كان صوته الجميل الرخيم الهادئ العميق يتسلل إلى النفس وكأنه يسترقها، حتى إنني كنت أنتظر سماع صوته الشجي وأتشوف إليه. أفصحت عن تلك الحالة المفتقدة في غير موضع من «خاطراتي».

خطيب الجامع

حتى وقت قريب كان الدعاء الشائع المتعارف عليه في نهاية خطبة الجمعة لا يخلو من تلك الجملة التي يحفظها المصلون عن ظهر قلب ويرددونها من دون وعي وراء الخطيب بقولهم: آمين. كان الخطيب يردد هذا الدعاء كل يوم جمعة: «اللهم عليك باليهود والنصارى. اللهم فرّق جمعهم، وشتّت شملهم، وخذهم أخذ عزيز مقتدر يا رب العالمين.. آمين.. آمين». يحدث هذا حينما يتغلغل التيار السلفي الفاشي في نسيج المجتمع بحيث ينخر في الوعي الديني وفي الهوية الثقافية وفي الوعي بمعنى المواطنة. فطنت حكومات بعض الدول ـ مثل مصر ـ إلى خطورة هذا الداء، فمنعت أنصار التيار السلفي المتطرف من اعتلاء المنابر وفرضت رقابة على الخطبة، فلم يعد مسموحاً بترديد مثل هذه العبارات التي تعكس شعوراً عدائياً مجانياً وغِلاً دفيناً يجافي كل القيم الإنسانية؛ ولكن الوعي الديني لدى بعض خطباء المساجد ولدى عوام الناس لا يزال ينطوي على هذا العداء المستتر. قد يساهم القانون والمراقبة في تكميم الظاهرة، ولكنه لا يقضي عليها من جذورها؛ لأن هذا يتطلب تغييرًا في الوعي ذاته.

ظاهرة أخرى من الهوس الديني يمكن أن نرصدها في حالة خطيب الجامع، وهي ظاهرة الأداء الصوتي للخطبة، وهو أداء يتكرر بصورة نمطية لدى أغلب الخطباء؛ إذ كثيراً ما نرى صوت الخطيب متشنجاً، يرتفع بشكل مزعج في نوع من الغضب والوعد والوعيد حينما يردد دائماً المحظورات والمحاذير التي يريد أن يبلغها للناس في نوع من الإرهاب.. يرتفع صوته البغيض حتى يتحشرج أحياناً، وتنتفض عروق رقبته، وتتجهم ملامحه لتستكمل صورة التعبير العدواني.

***

ما دلالة هذا كله؟ ما الدلالة الكلية التي يمكن أن تُستفَاد من كل ما تقدم؟ قد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن هذه الحالة الاغترابية للوعي الديني هي أحد الأسباب الجوهرية لاغتراب الوعي عن عالمه؛ ومن ثم يصبح الوعي غير قادر على أن يكون فاعلًا في العالم. يصبح الوعي واهماً بقدرة الشعارات الدينية على تحقيق التقدم في سائر الفاعليات الإنسانية المستقلة بطبيعتها عن هذه الشعارات، بل عن الشعائر الدينية نفسها؛ ومن ثم يصبح الدين كما لوكان قوة سحرية تعزيمية قادرة وحدها على النهوض بأحوال الأمم وامتيازها على غيرها.

فقد الدين روحه حينما فقد جوهره باعتباره قوة أو طاقة روحية تعين البشر على الحياة والعمل من خلال الإيمان بقوة عليا ترضى عن صالح الأعمال وتثيب البشر عنها في الدنيا والآخرة، وتبعث في نفوس البشر الطمأنينة والشعور بالأمل وبجدوى الحياة ذاتها. ولا شك في أن هذا الفقدان لروح الدين هو أحد أسباب تتنامى ظاهرة الإلحاد، على الأقل في بعض بلدان العالم الإسلامي. ومن هذا كله يتضح لنا أن ظواهر وتجليات هذا الفقد لروح الدين في العالم الإسلامي يعبر عن نفسه في الظاهرة ونقيضها: في الأشكال المتنوعة من ظاهرة الهوس الديني وفي ظاهرة الإلحاد بدرجاتها المتباينة. أما أسباب ذلك كله، فهو أمر آخر يحتاج إلى استقصاء التدهور الحضاري أو الثقافي (والمعنى هنا واحد) الذي أنتج ذلك، باعتباره تدهوراً في الوعي بفعل تحولات سياسية واجتماعية متسارعة. ومثل هذا الاستقصاء سيكون مفيداً بالتأكيد حينما نسعى بشكل جاد إلى التماس إجابة عن السؤال التالي: كيف نستعيد وعينا الديني؟ كيف نحول بؤرة اهتمامنا بالدين من الخارج إلى الداخل، من الشكل إلى المضمون، ومن التظاهر بالكلام والشعارات إلى التحقق في الفعل والسلوك، وقبل ذلك في الضمير.

المظهرية

يعرف معجم المعاني الجامع، المظهرية على هذا النحو:

مَظهريّة: اسم مؤنَّث منسوب إلى مَظْهر

مصدر صناعيّ من مَظْهر: حالة من الخداع وإظهار ما هو خلاف الحقيقة والواقع تتَّسم أفعالُه غالبًا بالمظهريَّة، أثبتوا سوءَ نيّاتهم بهذه المظهريَّة الكاذبة.
_____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *