مالك حداد.. القارئ يحفر قبر الكاتب

القاهرة- في مقال عنوانه «الأصفار تدور حول نفسها»، يكتب الشاعر والروائي الجزائري مالك حداد: «تفصلني اللغة الفرنسية عن موطني أكثر مما يفعله بي البحر الأبيض المتوسط، وبمجرد أن أهم بالكتابة العربية، يبزغ حاجز، رغماً عني، بيني وبين قرائي: الأمية». لقد كتب مالك حداد أعماله الروائية والشعرية باللغة الفرنسية وتكمن مأساته أيضاً في جانب آخر هو يعرفه جيداً: «هذا الجزائري الذي تأبط كتابك عند ذهابه، هل كان بإمكانه أن يقرأك أكثر، لو أنك كتبت باللغة العربية؟ بالطبع لم يكن لهذا القارئ الأمي أن يقرأ: ليس في رصيف الأزهار من يجيب» و«سأهبك غزالة» و«التلميذ والدرس» و«الانطباع الأخير»، كما أصدر ديوانيه «الشقاء في خطر، وانصت وسأناديك».
«اللغة الفرنسية منفاي»، هكذا كان يردد مالك حداد كلمة «جبرائي أوديزيو»، ويضيف إليها: «أنا في المنفى داخل اللغة الفرنسية، والمنافي لا تعني أنها بلا شأن، وأنا أحيي اللغة الفرنسية التي سنحت لي بأن أخدم، أو أحاول خدمة وطني الحبيب، حين يستتب السلام والحرية في وطني».
ظل مالك حداد يردد: «لدينا كثير من القراء، تبين أنه لا أحد باستطاعته أن يمنعني من أردد بأننا، بسبب قوة الأشياء، أيتام لقراء حقيقيين، فمن نكتب لهم في المقام الأول لا يقرؤوننا، وعلى الأرجح، لن يقرؤونا أبداً فهم يجهلون حتى وجودنا ذاته بنسبة 95%، هؤلاء القراء تحولوا إلى حفاري قبور».

أربع روايات كتبها مالك حداد في السنوات الأربع التي سبقت استقلال الجزائر ومجموعتين شعريتين، إلى جانب أشعار ومقالات متفرقة، إلا أن هذا النتاج القليل يكشف عن أن مالك حداد من أوائل الكتاب الذين استدرجوا الشعر إلى أرض الرواية – كما يرد سليم بوفنداسة – ورغم أن هذه النصوص كتبت في المرحلة الأخيرة من حرب التحرير الجزائرية، إلا أنها لا تزال تحافظ على «راهنيتها» لأن الحياة كانت موضوعاتها الرئيسية، بداية من حياة الكاتب التي يمكن أن نكتشفها في نصوصه الروائية والشعرية، التي كانت بمثابة سيرة مموهة، فخالد بن طوبال في روايته «ليس في رصيف الأزهار من يجيب»، هو مالك حداد أو الذاهب إلى فرنسا لملاقاة صديق، وبالطبع ستكون الصدمة في رصيف الأزهار، حيث لا أحد ينتظر الضيف القادم بأمر من حرب قررت رحيله ليسقط كشعرة في حساء صديقه.
وفي رواية «سأهبك غزالة»، يستأنس مالك الصحراء التي ذهب إليها مدرسا لفترة وجيزة، في رواية تسرد رواية أخرى، روائي في منفاه بصدد نشر رواية عن الصحراء، تطالب فيها البطلة بغزالة حية.
ومثلما كانت رواياته سيرة مموهة كانت أشعاره أيضاً سيرة جمع فيها بين الهم الشخصي والهم الجمعي بأسلوب فريد، وهو يعتبر ضمن قلة من الكتاب المتمكنين من ناحية الشعر إلى درجة أن كلامه العادي ومقالاته الصحفية كانت شعراً، على حد تعبير سليم بوفنداسة، رغم أنه لم يصدر سوى ديوانين، وكانت روايته الأولى «الانطباع الأخير» تتسم بلغة شعرية عالية تناسب الحديث، ففيها يرصد مالك حداد العلاقات الخطرة مع الآخر، مع العدو الحميم الذي يدفع المهندس سعيد إلى نسف الجسر الذي اجتهد في رسمه، والتخلي عن «لوسي» حبه المستحيل، لكنه يقاوم لكيلا ينسف الجسر في صراع رهيب بين مثله وما تفرضه الحرب من ضرورات.
ولد مالك حداد سنة 1927 في قسنطينة، لأب أمازيغي، يشتغل بالتدريس، وكان مالك يرى في المدرسة الفرنسية حاجزاً بينه وبين ماضيه وتاريخه أكبر من البحر الأبيض المتوسط الذي يفصل الجزائر عن فرنسا، لينتقل بعد ذلك إلى فرنسا، حيث التحق بكلية الحقوق، لكنه لم يكمل دراسته وهجرها سنة اندلاع الثورة الجزائرية عام 1954، ليشتغل في مهن يدوية إلى جانب انخراطه في المجال السياسي.
وبعد الاستقلال عاد مالك إلى الجزائر، وعاش مرحلة صعبة إلى درجة أنه لم يجد ثمن السجائر، وصمت عن الكتابة وانخرط في النشاط الإعلامي والثقافي، مشرفاً على الصفحة الثقافية لجريدة «النصر»، وتولى رئاسة اتحاد الكتاب الجزائريين، وأصدر لمجلة «آمال»، التي اهتمت بأدب الشباب، ما يجعل علاقته بالسلطة أمراً محيراً، فقد انحاز لانقلاب هواري بومدين على أحمد بن بله، وخلد إلى الصمت المأساوي بعد توافقه مع السلطات الجزائرية حتى موته، لكن كان قد تحول إلى أيقونة غير قابلة للنقد، وعاش مالك حداد نكسة 1967 بألم كبير، لم يكن يصدق أن الأمور تسير نحو الهزيمة، وحين زار بومدين قسنطينة سأل عن مالك حداد، وأخرجه من عزلته، وكان وراء انتقاله إلى العاصمة لكنه بانغماسه في النضال الثقافي، كان يبتعد عن الكاتب فيه حد الموت، الذي أنهى حياته سنة 1978 وهو في الواحد والخمسين من العمر.
_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *