التفاصيل المتداخلة المدهشة في “جريمة في قطار الشرق السريع”(1)

خاص- ثقافات

 *مهند النابلسي

 براعة  المحقق “بوارو” الخارقة بكشف الجرائم الغامضة ابتداء من سرقة “حائط المبكى” الى “جريمة فوق النيل”: ما تفسير ولع “أجاثا كريستي” بقصص الشرق الساحر؟

* الأحداث الأخيرة “اطلاق سراح الركاب ومغادرة بوارو الى مصر”: يطلق بوارو سراح الركاب ويسمح لهم بالمغادرة، وينزل من القطار، حيث يقترب منه “حامل رسالة” مستعجلة، متحدثا عن جريمة جديدة “الموت فوق النيل” (اسم الرواية الجديدة لأغاثا كريستي)، طالبا منه التوجه فورا لمصر للتحقيق في هذه القضية الجديدة، فيغادر بوارو بسيارة مع السائق مسرعا.

*تفاصيل الحبكة المعقدة: “خطف وقتل وتراجيديا عائلية حزينة”: في صبيحة اليوم التالي، يعلم بوارو أن “راتشيت” قد قتل خلال أثناء الليل، حيث طعن عشرات المرات…حيث يقوم كل من “بوارو وبوك” بالتحقيق في القضية الغامضة “البالغة التعقيد”، علما بأن بوك ليس من المشتبه بهم، لأنه نام في مقصورة اخرى، وتشير جميع الأدلة بان راتشيت قد قتل من قبل رجل واحد “وحيد” بلا مشاركة احد، وتدعي السيدة هوبارد ان رجلا كان في غرفتها المجاورة لغرفة راتشيت أثناء الليل، ثم يكتشف بوارو مذكرة “محترقة جزئيا” ويشير فحواها لعلاقة ما بين راتشيت مع قضية اختطاف “ديزي أرمسترونغ” الشهيرة، وهي فتاة صغيرة كانت قد اختطفت من غرفة نومها، واخفاها الخاطف للحصول على فدية مالية كبيرة، ولكن بعد دفع الفدية، فقد تم العثور على جثة دايزي مقتولة في الغابة، ثم تبين لاحقا أن راتشيت هو نفسه “جون كاسيتي”  الخاطف والقاتل، وقد أدت هذه التداعيات التراجيدية لوفاة والدة الفتاة لاحقا بعد تعرضت لولادة مبكرة لجنين ميت، مما أثر على الوالد (الكولونيل أرمسترونغ) الذي انتحر بعد فترة وجيزة، وقد القي القبض على ممرضة الاسرة المنكوبة سوزان، والتي شنقت نفسها أثناء احتجازها في مركز الشرطة، ليتبين لاحقا انها كانت بريئة تماما.

*اكتشاف المزيد من الأدلة: بالفعل فقد تم الحصول على المزيد من الأدلة، بما في ذلك منديل ملطخ بالدماء مطروز عليه الحرف “اتش”(بالانجليزية)، مع زر منزوع من بزة كمسري القطار، وقد وجدت هذه الأدلة في مقصورة السيدة هوبارد، وقد تم العثور على زي الكمسري، كما تم ايجاد “الكيمونو” الأحمر في حقيبة بوارو، وفجأة تطعن السيدة هوبارد في ظهرها، ويعجز بوارو عن تحديد شخصية الطاعن…ثم يكتشف بوارو من خلال المقابلات وجود عدة اتصالات وعلاقات ما بين معظم الركاب مع أفراد عائلة أرمسترونغ المنكوبة، وأثناء استجواب “ماري دينهام” يواجه بوارو من قبل الطبيب “الهندي الأسمر اللون” جون أربوثنوت”، الذي يواجه بوارو بطلقة مسدس في الكتف، مدعيا بأنه هو المسؤول وحده عن اغتيال راتشيت، حيث يتبين لبوارو أنه قناص سابق، لكن “بوك” يتدخل في الوقت المناسب لتوقيفه، ويكتشف بوارو ان “أربوتنوت” لم يقصد ابدا قتله!

*الانغماس بالتحقيق واكتشاف الأسرار وخفايا العلاقات المتشابكة: أخيرا جمع بوارو جميع المشتبه بهم خارج القطار وفي مقدمة النفق، وقدم لهم نظريتين لكيفية مقتل راتشيت، الاولى بسيطة وتتعلق بقاتل متنكر دخل القطار خلسة وقتل راتشيت ثم هرب. اما الثانية فأكثر تعقيدا وتداخلا، وتتعلق بارتباط كل الأشخاص “الموجودين في القطار” بشكل او بآخر بعائلة آرمسترونغ: فادوارد هنري خادم كاسيتي، كان قائده خلال الحرب، ثم عمل كخادمه، كما ان الدكتور “أربوتنوت” كان رفيقه وأفضل صديق له، والكونتيسة هيلينا أندريني” (لي غولدنبرغ) تكون هي نفسها شقيقة “سونيا أرمسترونغ” وخالة الطفلة الصغيرة المقتولة “ديزي”، أما الكونت “رودولف أندريني” الذي هو زوج “هيلينا”، فقد كان يحب زوجته كثيرا، وقد تابع معاناتها العائلية، والأميرة “دراغوميروف” فقد كانت عرابة سونيا أرمسترونغ وصديقة لامها، ومس “ديبينهام” فقد كانت مربية “ديسي” ومرافقتها، أما فرولاين “هيلد جريد شميدت” فقد كانت طباخة الاسرة المنكوبة، وكان المكسيسكي “بينيامينو ماركيز” مدينا لاسرة أرمسترونغ بعد أن موله العقيد في انجاز اول عمل تجاري، وكانت مس “بيلار ايسترافادوس” تعمل كممرضة لديسي…والموضوع بعد لم ينتهي: فقد كان والد “هيكتور ماكوين” محامي المقاطعة خلال عملية الاختطاف، والذي دمرت حياته وسمعته بعد ادانة سوزان بالخطا لمقتل ديزي، كما ان سائق القطار ” بيير ميشيل” كان نفسه “شقيق سوزان”، و”سيروس هاردمان” الحارس لشخصي لكاسيتي، كان متخفيا بصفة باحث نمساوي، كان في حقيقة الأمر ضابط شرطة وقع في حب سوزان، وأخيرا فقد كانت مسز” كارولين هوبارد” هي نفسها “ليندا آردن” (لي جولدنبرغ)، وهي في الحقيقة ام سونيا أرمسترونغ، وجدة “ديزي” المخطوفة…

*تنسيق وقيادة عملية القتل: انها مسز هوبارد (ميشيل فايفر بدور لا ينسى) هي التي نسقت وقادت جريمة القتل بالكامل، حيث قاموا جميعا في ليلة الاغتيال بطعن راتشيت واحدا تلو الاخر لتحقيق العدالة والانتقام منه…ثم تم زرع الأدلة الخاطئة لاقناع المفتش بوارو بصحة نظرية القاتل الوحيد الهارب! ولكن بوارو بدهائه يتحداهم جميعا لاطلاق النار عليه لكونه كشف تفاصيل جريمتهم أخيرا، فيقدم مسدسه لهم، حيث تستولي عليه السيدة “هيوبارد” محاولة الانتحار ولكنها تفشل لكون المسدس غير مشحون، وكانت المقصود من حركة بوارو هذه معرفة ردود افعالهم وتفاعلهم مع اكتشافاته الدقيقة.

*وعلينا طوال مدة العرض أن نقارن أداء “براناة” الجديد هنا مع التقمص الاستحواذي لألبرت فيني في تحفة “سيدني لوميت” القديمة(1974)، لكنا ننبهر هنا ايضا من تقمص “براناة” للدور واسلوبه الاخراجي اللافت الدقيق، انه “هيركول بوارو” بلحمه ودمه، يعود حيا الى الشاشة بشاربه الغريب كوحش رائع بظلال مختلفة غامضة، كما انه سيناريو المبدع “مايكل غرين” (صاحب تحفة الخيال العلمي الجديدة”بليد رانر”)، الذي يقوم هنا بعمل كبير لادخالنا لدهاليز شخصية بوارو اولا، ثم لخفايا ودهاليز الجريمة الغامضة التي حدثت في القطار الفخم، حيث يستعرض عجائب تصرفات بوارو ابتداء من معاينته لحجم البيض الصباحي بدقة، ومرورا بتوجيه الملاحظات للآخرين حول تصحيح ربطة العنق، وكانه يعاني من “وسواس قهري” ملزم، لكنه يسعدنا باستمتاعه برائحة الخبز الشهي في مخبز صديقه التركي الحميم “محمد” في اسطنبول وكأنه يدعونا لزيارة المدينة الساحرة في رحلة سياحية.

*عودة للبداية اللافتة المشوقة: كما يقولون فالموضوع يظهر من عنوانه وبدايته، ولكن على غير المتوقع عادة في الأفلام الغربية التي تتحدث عن المشرق، فقد كانت جرعة “اللؤم الاستشراقي” هنا معتدلة نسبيا وأقل سذاجة بطريقة عرض سكان مدينة القدس في ذلك الحين من عرب ومسيحيين ويهود (بثلاثينات القرن الفائت)، وربما حتى طريفة ومقبولة نوعا ما وان كانت ما تزال غير واقعية ومضللة، فقد تحدث عن الوجود اليهودي في فلسطين التاريخية حينها بالعام 1934، وكأنه وجود متوازي ومكافىء للوجود الفلسطيني الوطني والقومي لأصحاب الأرض الحقيقيين، ونعلم أن حركات التهجير الصهيونية كانت تنشط حينها في البدايات لشحن اليهود الغاصبين تدريجيا لفلسطين بالتعاون مع المستعمر البريطاني “اللئيم المتحيز والعنصري” في عهد الانتداب الغاشم: حيث نرى هنا محققنا الذكي “بوارو” وهو يكشف للملأ ببراعته المعهودة تفاصيل جريمة سرقة تحفة اثرية تاريخية، عندما يجمع ثلاثة رجال دين “مسلم ومسيحي ويهودي” امام حائط المبكى ليكشف بذكائه اكتشافه المؤكد لشخصية السارق امام الحشد المختلط، وليتبين انه هو نفسه أحد الحراس البريطانيين (حاميها حارميها)، الذي يبادر بالهروب وسط الحشد والضوضاء، ويبدو هذا الاستهلال كاشارة لمهارات بوارو الفريدة في التقاط الأدلة الخفية وكشف المجرم مهما كان بارعا!

* باحث وناقد سينمائي/

 

شاهد أيضاً

“أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني

(ثقافات) “أثر على أثر” معرض لمفاضلة في المتحف الوطني برعاية العين د. مصطفى حمارنة ينظم …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *