فيروز عصفورة تائهة بين الشمس والشرق

*أحمد شوقي علي

مع اقتراب ذكرى ميلاد أو رحيل أحد المبدعين المؤثرين، ثمة صحافي يمد يده إلى فراغ يحتل مكتبه -يصارع ما يظنه فوضى أفكار أهملها- بحثًا عن قلم كوبيا، حيث إنه يجب عليه التحلي بوجاهة كاتب كلاسيكي، لتناسب عظمته قيمة ما لمع للتو في رأسه كمشروع للكتابة. وحين يكتشف –فجأة- أنه لم يمتلك مثل ذلك القلم في حياته، فإنه لا يحزن، بل يستعيض عن المشهد الذي صاغه في مخيلته، بابتسامة ثقة، تتسع بالقدر الذي يسمح لشفتيه أن تلفظ جملة “يا ولد” -التي يطري بها ذاته- دون أن يسمعها سواه، خشية أن يُتهم بغير التواضع، ثم يشرع في صياغة ما يعده لأن يكون أيقونة لغوية تكلل ذكرى ذلك المبدع، وبينما يلصق في نصه كل بديهي ومكرر عن سيرته، تستبد به دهشة ما توصل إليه، كأنه ليس من أعاد اكتشاف ذلك المبدع فحسب، وإنما من اكتشف اللغة ذاتها.

هذا الصحافي نفسه، قد لا يؤرقه أن يقوم غيره بإعداد ملف صحافي عن أحد الفنانين. على العكس، فإن ذلك قد يدخل السرور على قلبه، فهو مجال طيب -في تقديره- لاستعراض مهاراته، حين يتدخل لتوجيه الآخر لما هو أفضل من وجهة نظره، القاصرة بكل تأكيد، وأتخيل أن مثل ذلك النموذج من الصحافي الضحل، هو من يقف وراء التغير الذي طرأ على غلاف العدد التذكاري عن فيروز، الذي أعدته مجلة الكواكب، ليواكب الاحتفال بذكرى ميلادها الـ82 التي حلت أمس الثلاثاء.

حيث إن الصحافي المصري محمد دياب، المسؤول عن إعداد العدد بالكامل، قد نشر منذ أيام في صفحته الفيسبوكية، الغلاف المفترض للمجلة، والذي يحتوي على صورة لفيروز في شبابها بينما تتطلع للأفق، ومزيل بعبارة “في عيد ميلادها- فيروز.. عصفورة الشمس”، لكن العدد الذي طرح في الأسواق، خرج بغلاف سيئ، يحتوي على صورة لها في شيخوختها بينما تغني مرتدية فستانًا مذهبا، ومزيل بعبارة “في عيد ميلادها- فيروز.. عصفورة الشرق”، ولعلني أتخيل المسؤول عن ذلك التغيير، قد أمسك – في استهانة – ببروفة العدد قبل طباعته، وهو يتساءل “ما هذه الصورة… أين أبهة فيروز، وما معنى عصفورة الشمس”، قبل أن يطلب المخرج الفني في مكتبه، ليدور بينهما الحوار التالي: “مش هو عايز شمس، خلاص حط لنا الصورة اللي لابسة فيها فستان أصفر ديه… شايف بيبرق ازاي وهي بتغني، يا أخي ده الست غنت يا مصر عادت شمسك الذهب.. أهو كده الصورة بتتكلم… بس عصفورة الشمس ده… صحيح هو لايق على اسم المجلة، بس العنوان كده مش عاجبني… نغيره لإيه… أيوة أقلك؛ هم مش المصريين اللي سموا أم كلثوم كوكب الشرق، فيروز برده فنانة كبيرة، وهي كمان تخصنا وتخص الشرق… تبقى عصفورة الشرق… اعتمد واطبع يابني”.

لكن أزمة ذلك الغلاف ليست في اختلاف الصورتين وما زيلتا به، وإنما في أن من أمر بذلك التغيير، يبدو أنه لم يقرأ العدد الذي وقع بالموافقة على طباعته، وإلا فطن لما أراد دياب إيصاله من خلال المادة التي جمعها في ملفه، حيث إنه لم يرغب في إظهار مدى “روعة” فيروز، فهي معروفة لا تحتاج إلى مزيد من الكلاشيهات، وإنما سعى من خلال بحث أجراه على الأرشيف الصحفي المصري والعربي منذ خمسينات القرن الماضي، لاستعادة كثير من المحطات المنسية في علاقة الفنانة اللبنانية بمصر، والوقوف على بعض تفاصيلها التي قد تبدو غير واضحة بما يكفي لكثير من الجمهور، كذلك قدم قراءة مختلفة لبعض أغانيها، وبخاصة ما جاء في ألبومها الأحدث “ببالي”، وهي مادة يبدو معها الغلاف القديم الأنسب، ليس لتقديمه صورة فيروز الفتية فقط، وإنما لما يحمله وصف “عصفورة الشمس” من دلالة لغوية مستمدة من أغنيتها، وكأن فيروز تقدم نفسها للقارئ في طبعتها المصرية.

يبدأ محمد دياب -الذي سبق وأن فاز بجائزة “التفوق” من نقابة الصحافيين المصرية عدة مرات، أخرها عام 2016 عن ملف بعنوان “أربع محاولات لتلحين القرآن الكريم في قرن”- عدد فيروز التذكاري، من حيث انتهت الأخيرة في ألبومها الأحدث “ببالي”، والذي يصفه بـ”رسالة فيروز الأخيرة إلى جمهورها”، ويعتبره في الوقت ذاته تحديًا من فيروز لابنها زياد، معترضًا فيه على من انتقص من قيمة الألبوم الفنية، لأن أغانيه جاءت كإعادة لألحان أجنبية شهيرة.

ولأنها لم تكن المرة الأولى لفيروز مع الموسيقى الغربية، فإن دياب يخصص تقريراً لاستعراض ما غنته فيروز خلال تجربتها من ألحان أجنبية بكلمات معربة، ولا يتوقف دياب عند هذا الحد في تقريره، بل يمتد إلى رصد محاولات النقل عن فيروز وإعادة غناء أغانيها غربيًا، ويرصد كذلك لمحاولات الانتحال التي تعرضت لها، كما يشير للاتفاق الذي جرى بينها وميل غيبسون لتأدية بعض أغاني فيلم “ألام السيد المسيح”، كذلك يستكمل دياب الموضوع ذاته بتفنيد ما وثقته الصحف في نهاية خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي من محاولات فيروز الغناء باللغة الإنكليزية، فبخلاف ترنيمات العيد الثلاث التي غنتها وسجلت بالإنكليزية، كانت للرحابنة محاولات أخرى بحسب ما كتبت عددًا من الصحف اللبنانية والمصرية، من بينها ما أكدته صحيفة “الأخبار” المصرية من تسجيل فيروز أسطوانة كاملة بالإنكليزية عرُضت على الرئيس الأميركي الأسبق أيزنهاور وأعجب بها، لكن الأسطوانة لم تر النور ولم يسمع عنها بعد ذلك.

وطبقًا لهذه الاستراتيجية فإن محمد دياب لا يطرح موضوعًا إلا وحاول تتبعه من زوايا عدة، عبر ما يليه من مواد، حتى وإن كان ذلك الموضوع نصًا مستعادًا من الأرشيف الصحفي، فعندما يورد مقالا لسليم اللوزي، مراسل “الكواكب” في بيروت، والذي زار فيروز في بيتها في يونيو من عام 1953، والتقط لها عدة صورًا بينما تغسل الصحون (أوردتها المجلة)، فإنه يشير في مقاله إلى خجل فيروز الشديد من مواجهة جمهورها على المسرح، ثم يورد دياب بعد هذا المقال تقريرًا أعدته الكواكب، في سبتمبر من العام 1959، من دمشق، عن أول حفلة لفيروز هناك، تستعرض خلاله المحاولات التي فشلت في استقدامها للغناء قبل ذلك بسبب رهبتها من مواجهة الجمهور.

وفي تحقيق عن علاقة فيروز والأخوان رحباني بمصر، يثمن دياب رفضهم الغناء باللهجة المصرية، لأن ذلك في رأيه يضر بخصوصية تجربة فيروز الفنية، ويشير في الإطار ذاته لعدد من المشاريع التي لم تكتمل مع ملحنين وشعراء مصريين مثل سلامة حجازي وكامل الشناوي وبليغ حمدي وعبدالرحيم منصور، وإلى رفض الأخوان رحباني إلحاح عبدالحليم حافظ المتكرر لمشاركة فيروز مسرحية غنائية باللهجة اللبنانية.

ثم يفصل بعد ذلك زيارات فيروز الأربع إلى مصر، ويتوقف عند كثير من تفاصيلها، وكذلك يتناول بالتفصيل ما أثير في الستينات من منع فيروز والرحبانية من زيارة مصر، ومنع أغانيهم من العرض في الإذاعة.

كذلك يخصص دياب تقريرًا طويلا لرصد تفاصيل قصة تلحين رياض السنباطي ثلاثة قصائد لفيروز، وهو المشروع الذي تم بتمويل كويتي، أشرف عليه وزير الإعلام الشيخ جابر العلي الصباح، لكنه لا يزال غير منتهيًا إلى الآن.

كذلك يتضمن الملف مقالاً كتبه أنسي الحاج عن فيروز، نشر في محلق النهار في الخامس عشر من فبراير عام 1970، وهو المقال الذي قابلته فيروز بانزعاج شديد، وهددت باعتزال الغناء بسببه، ففي التاسع من مارس عام 1970، نشرت مجلة الشبكة اللبنانية حوارًا مع فيروز(نشرت الكواكب صورة ضوئية كاملة له)، هددت فيه الأخيرة باعتزال الفن مدة ثلاث سنوات إذا لم يتوقف “حملة الأقلام” عن تصويب سهامهم ضدها، دون أن تسمهم، ويشير دياب إلى أنها كانت تقصد الحاج تحديدًا، بسبب مقاله الذي أغضب زوجها عاصي، حيث كان الشاعر اللبناني الراحل يتغزل في مقاله بفيروز كامرأة وليست كمغنية، معلنًا عن ولعه الشديد بها.

كما يضم الملف حوارًا مع الإذاعي المصري أحمد سعيد، الذي دعا فيروز والأخوان رحباني لزيارة القاهرة للمرة الأولى، وقد شهدت هذه الزيارة تسجيل نحو 50 أغنية لإذاعة صوت العرب، واستكمال فيروز وعاصي لشهر عسلهما على نيل الزمالك.
وكذلك يضم العدد تقريرا عن علاقة فيروز بعبد الوهاب، وقصيدة لحنها وديع الصافي لفيروز من كلمات موفق شيخ الأرض، وتقرير عن الأغاني التي غنتها فيروز لفلسطين، وأخر عن محاولة فاشلة للتعاون بين فريد الأطرش وفيروز، ثم تقرير عن مشوار كل من فيلمون وهبي وفيروز، وأخر عن علاقة الرحابنة بشعر جبران، ثم عن تجربة فيروز والرحبانية مع سعيد عقل، كذلك تضم المجلة عددًا متنوعًا من الصورة النادرة لفيروز والأخوان رحباني في مراحل مختلفة خلال زياراتهم إلى القاهرة، تجمعهم بالعديد من الفنانين المصريين مثل نجاة وأم كلثوم وعبدالوهاب وشادية وهدى سلطان وغيرهم.

وعلى الرغم من ازدحام الملف بمادة أرشيفية غنية، فإن محمد دياب يشير في افتتاحيته إلى أن ما جاء فيه، هو نصف ما أعده فقط عن فيروز، وذلك لتجاوز مادة الملف كاملة قدرة المجلة الطباعية، لذلك فقد قسمه إلى نصفين الأول نشره هذا العام، فيما أجل الثاني لنشره في ذكرى ميلاد فيروز العام القادم، وفي تقديري فإن هذه المادة وما بقي منها قيد النشر، جدير بالجمع في كتاب، دون الانتظار إلى حلول مناسبة السنة القادمة، لعل الكتاب –ساعتها- يقدر على الهرب من سطوة صحافي ضحل آخر، ربما يحبسه هذا المرة في كلاشيه لا يستطيع الانفلات منه أبدًا.
_______
*المدن

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *