حين اختلطت الاتجاهات أمام أنظار إنسان هذا الوطن العربي، وهي مختلطة منذ خمسة قرون تقريباً، أي منذ غزوات الأساطيل الغربية للمحيط الهندي، وقطع شرايين الحياة عن هذا الوطن، بين أن يمضي شرقاً أو غرباً، وبين أن ينتمي إلى ماضيه الضائع أو يلتحق بحاضره الكابوسي، ظهر في القرن التاسع عشر مفهوما الأصالة والمعاصرة في محاولة لبلورة نظرية تقود إلى نهضة أو حداثة أو معاصرة.. وما إلى ذلك من تسميات ظلت تتراكم إلى أن وصلت إلى ما تسمى الصحوة.
وفي مجمل هذا السياق الجدلي توالت محاولات حل الاختلاط بين مفهومي الأصالة والمعاصرة. أبرزها أولا قول د.فؤاد زكريا (1927- 2010) بوهم المفهومين على أساس أنهما يعنيان «اتباعاً»، إما باحتذاء نموذج الماضي، أو احتذاء النموذج الغربي، والأجدى الالتفات إلى المدلول الإيجابي فيهما، أي «الإبداع» بابتكار وسائل بسيطة وفعالة لحل مشكلات تقانية معقدة. وثانيهما محاولة تحديد معناهما إيجابياً منذ وقت قريب على يد د. حسن حنفي (1935- )، بحيث تصبح الأصالة، حين تبحث عن الجذور والتأسيس في الأعماق، شرطاً للمعاصرة التي هي في تحديده مجابهة للواقع والبحث في أساسه عن الحلول الجذرية لقضاياه الأساسية.
التنظير مهم، وجلاء المفاهيم أكثر أهمية، إلا أن تركيز النظر على هذين الجانبين ظل يعني دائماً إغفال وعي الإشكالية ذاتها، أي إشكالية النهوض التي ظلت ماثلة وتتجسد في أكثر من زاوية وواجهة. فتحت العناوين النظرية، وتداول مفهومي الأصالة والمعاصرة الأكثر جاذبية، لا يتم الانتباه إلى أن جوهر إشكالية النهوض والانحطاط الذي يحاولان استكشافه، ليس واحداً منذ أواسط القرن التاسع عشر وحتى أوائل القرن الحادي والعشرين.
اختلف هذا الجوهر باختلاف رؤية الطبقات والفئات الاجتماعية العربية، سواء تلك التي وقفت مع الاكتساح الغربي للوطن العربي، بدءاً من أطرافه ووصولاً إلى أعماقه، أو تلك التي جابهته. وبناءً على ذلك لم ينبع تعدّد الصيغ التي طرحت للإشكالية (أصالة أم معاصرة، أم كلتاهما معاً؟ الاتجاه شرقاً أم غرباً؟) من الغموض والاختلاط اللفظي، بقدر ما كان نابعاً من تباين المصالح في التشكيلة الاجتماعية التي صدمها الاكتساح. والشواهد عديدة على المستوى السياسي والفكري والاقتصادي.. إلخ. الأقرب إلى الوضوح تحديد الخديوي إسماعيل (1830- 1895)، ومن تابعه من مفكرين من أمثال د.طه حسين (1889- 1973) لإشكالية مصر مثلا في إطار القدرة على التحول إلى جزء من أوروبا، بينما كان مفكر مثل عبد الله النديم (1842- 1896) يرى مشكلة مصر في إطار القدرة على التحرر من قبضة أوروبا.
على الصعيد النظري كان الخيار يتردد بين موقفين، الأصالة والمعاصرة، بمعنى الحفاظ على الذات بكل ما ورثته، أو الذوبان في الآخر الغربي. ولم يأت فشل فاعلية كلا الخيارين، في الماضي والحاضر، بسبب أخطاء نظرية بقدر ما جاء بسبب طبيعة الاكتساح الغربي الذي لم يكن احتكاكاً أو تعارضاً بل كان اقتحاماً لبنية تاريخية، غيّر عناصرها، ومعاني وجودها واتجاهاتها. وأمام اكتساح هذه طبيعته لم يكن بإمكان «نهضة» لا تعي هذه الطبيعة (الغزو المسلح بنظم إنتاج متقدمة وتقانات عسكرية أشد فتكاً من جيوش العصور الوسطى) أن تحافظ على منجزاتها البسيطة، أو تنخرط في الآخر الغازي. يكمن سرّ هذا الفشل، فشل الشخصية التقليدية والشخصية العصرية، في آليات مشروع الغزو ذاتها، فغايته لم تكن، كما توهم قادة فكر ومنظرون وخديوات، إقامة عالم على مثاله، لأنه بذلك يناقض نفسه كنمط إنتاج متمركز ومتوسع على حساب التهام الشعوب الأخرى، بل كانت آليته تتجه نحو صناعة عالم ثالث، لا هو بالعالم التقليدي الأصيل، ولا هو بالعالم المعاصر. وأبرز ما يعبّر عن اتجاه هذا الغزو تلك الأحداث التاريخية التي قوضت فيها أوروبا أنماط الإنتاج الرأسمالية التي حاولت الظهور، في مصر والعراق وتونس، في أوقات مختلفة من القرن التاسع عشر.
ما قام به الغزو الأوروبي بحكم طبيعته، أي كنظام رأسمالي متوسع، ليس في الوطن العربي فقط بل وفي مختلف أرجاء الكرة الأرضية، كان تحطيم البنى التقليدية (الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والعسكرية) وصياغة تجمعات بشرية مشتتة تخدم وظائفه فقط. أي تجمعات بلا هوية ولا مراكز، أو مجتمعات منفية على هامش التاريخ. منفية من ممالك الإنتاج الزراعي والصناعي والمعرفي، أي من كل مقومات البقاء على وجه الأرض. وفي ذلك كان الغزو الغربي يستعيد ويرسخ المبادئ الموجهة لسياسات قامت عليها إمبراطورياته في الماضي: أن لا يتسلح البرابرة، أن لا يتوحد البرابرة، أن لا يعتمدوا إلا على الامبراطورية. ومعروف أن كلمة «برابرة» كانت تطلق على المجتمعات غير الخاضعة للإمبراطورية في الماضي، ولاستبداد النظم الرأسمالية في الزمن الراهن.
ولئن بدا فشل الإنسان التقليدي الداعي إلى الأصالة، في دفاعه عن ذاته ونمط حياته وطراز بيته ومكانه في العملية الإنتاجية ومعتقداته، واضحاً في سياق العنف الاستعماري الذي هاجمه، في وقت لم يكن يملك فيه لا المؤسسة المنظمة ولا النظم المعرفية الكافية، فإن فشل العصري الداعي إلى المعاصرة كان أشد وضوحاً ومأساوية. ذلك لأن الأول كان يدافع على الأقل عن هوية وعن بيئة تاريخية ذات سمات محددة هدمها الغزو الغربي في طريقه إلى الأسواق والمواد الأولية وطرق المواصلات البحرية والبرية، بينما كان الثاني يتوقف عن الدفاع، أو يتجنبه ويدعو إلى تجنبه، آملاً في تحقيق مستقبل خاسر سلفاً، أي مستقبله كما تصوره على غرار الحاضر الغربي وبالتعاون معه. وهكذا سار فشل داعية الأصالة وفشل داعية المعاصرة في خطين متوازيين، وظل الوعي بهذا الفشل وإدراك أسبابه مهمتَين لم تنجزا حتى الآن.
لقد فقدت قوة العمل العربية، الفكرية والعضلية، موضوع نشاطها، أي المادة والطبيعة، وفقدت تاريخها، أي السياق الزمني الذي تُترجم فيه وبواسطته فعالية الفكر واليد. وتدريجياً، ومع نمو شروط التبعية في شتى المجالات، المعرفية والاقتصادية والسياسية والعمرانية والاجتماعية، أصبحت هذه القوة بلا «قوة» حقاً. ولتقريب فكرة القوة التي تفقد «قوتها» لنتخيل مجتمعاً وجوده (تجمع أفراده وعلاقاتهم ونظمهم ومعارفهم) مشروطٌ بوجود نهر وأراضٍ محيطة به؛ ما الذي يمكن أن يكون عليه مصير هذا الوجود إذا نضب النهر وتفتت كل ما كان يسنده من علاقات ونظم ومعارف؟ هل يكون أمام أفراده إلا التبطل وتشكيل حلقات مذاكرة قصائد الماضي وملاحمه، والتمتع مؤقتاً بما تنتجه مجتمعات أخرى؟
لا نشك أن مثل هكذا مجتمع سرعان ما سيتحول إلى مجرد كتلة لا فرق بينها وبين كومة رمل، ليس لها من صفات البنية إلا المظهر الخارجي، أما عناصرها فلا رابط يربط بينها سوى تجمعها في مكان واحد، أو تكدسها. وسيبدو بحثه عن الأصالة والمعاصرة، أو كلتيهما معاً، لغواً لا يمت للواقع بصلة. لذا لا خيار ولا تقابل بين الاتباع والإبداع. لم تعد المسألة تتكيف في إطار خيار حر بين هذين الموقفين في وضعية مجتمع منفي إلى الهامش على صعيد الإنتاج، ولا وقت لديه حتى ليكون تابعاً إن أراد. لقد بدأت مرحلة التبعية بالأفول مع ازدياد تركز عملية الإنتاج عالمياً، معرفة وبضاعة، في أيدي أنظمة قليلة، ومع ازدياد تهميش المجتمعات المستعمرة سابقاً، وبروز ظواهر الإبادة، إبادتها بالمجاعات والحروب الإقليمية والهجرات. وفي الحصيلة النهائية لا قيمة لتقديرات من يهلك في هذا الصراع الطاحن أو أحلامه. لا خيار إلا خيار الإبداع؛ ليس بالمعنى التقاني، أي ابتكار الوسائل البسيطة والفعالة لحل المشكلات، بل بالمعنى الحضاري. وهذا يعني طرح الإشكالية كما كانت دائماً؛ إشكالية صنع الحضارة، بكل ما يتضمنه هذا من مقاومة وقدرة على انتزاع المجتمع من الهامش وإعادته إلى التاريخ، وإلى الطبيعة، وإلى ذاته.