خاص- ثقافات
*سيومي خليل
يتحدث الفيلسوف الوجودي والكاتب المسرحي الفرنسي-الجزائري ألبير كامو عن الفيسلوف فريدريك نيتشه بحب وعمق كبيرين .
يقول ألبير كامو :
مع نيتشه تغدو العدمية نبوية، وفيه تصير لأول مرة واعية، وقد تفحصها وكأنها واقعة سريرية،وقد شخص في نفسه ولدى الآخرين عجزاً عن الاعتقاد وزوال الأساس الأول لكل إيمان، أي الاعتقاد بالحياة. وبدلاً من الشك المنهجي، مارس النفي المنهجي والتدمير النظامي لكل ما يحجب العدمية عن نفسها.(معجم الفلاسفة، جورج طرابيشي؛ مادة:نيتشه، دار الطليعة، بيروت – لبنان، الطبعة الثالثة، يوليو 2006 م. ص 680.)
ثم أضاف ألبير كامو بافتتان واضح :
ومن يشاء أن يكون خالقاً، سواء أفي الخير أم في الشر، فعليه أولاً أن يكون هداماً وأن يحطم القيم.( نفس المرجع )
ارتبطت العدمية باللاأخلاقية ، في حين أنها لا تعني من أي جهة كانت الأخلاق أو اللاأخلاق . لقد كان نيتشه ،تسبقه دوما تهمة اللاأخلاقية كسنام على متن فكره ،وهو الفيلسوف الأخلاقي الملتزم ،والعدمي الفكري وليس الأخلاقي ؛ إذن كيف أُسقط العلم من رأس الجبل إلى انبطاح السهل ؟؟
المؤلف الشيق *هكذا تحدث زرادشت* إنجيل نيتشه المقدس والخاص جدا ،وهو نقيض أي تصور عدمي للوجود ، أو لأي تصور لا أخلاقي ، إنه كتاب صوفي – إرادي – يتحدث فيه عما يجب أن يكونه الإنسان ،وعما يجب أن يتصف به كي يملك نفسه والوجود من حوله .
نيتشه يكره أخلاق بعينها ،تلك التي تعلم المسكنة والتلاين ، أخلاق المسيح بكل تجلياته هي أخلاق كائن ضعيف ، والمسيحيون جميعا مجدوا الضعف وأخلاقهم عبيدية ؛ هكذا يعلن نيتشه …لذا لم يكن من المفروض عليه أن يشك كما فعل الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت في شيء ، بل أن يهدم كل القيم التي بنيت على تصور استكاني للوجود والإنسان والطبيعة .
النفي المنهجي ؛ هذا ما تلقفه الفيلسوف صاحب روايتي الغريب والسقطة ألبير كامو من منهج فريدريك نيتشه، ومن قراءاته لهذا الكائن المتوحد الصارم . النفي يعني الإزالة بعد الهدم . الأساس في طريقة تفكير العبثي كما عند نيتشه ليس عدم قبوله العالم كما هو ، بل هدم منظومته الفكرية غير الصالحة للإنسان ، وإقامة على أنقاض هذا الخراب تصور يمجد الإنسان وتفوقه . بهذا المعنى يصير العبثي فرد فاعل في المجتمع ، حركي ، ينتمي إلى الناس وليس فوقهم ، لكنه يأخذ مطرقته كي يعلن بدأ هدم التصورات الفارغة التي يسقطون فيها،ويعيشون بها / وفيها / ومنها . إن العبثي لا يتحدد بسلوكاته أولا ، إنما ثانيا ، بل هو عبثي أولا لأنه ينظر إلى العلاقات القائمة بين الناس على أساس ضعف / وإستعباد أخلاقي ؛ وهذا ما رفضه نيتشه رفضا قاطعا .
لقد لخص كارل ياسبرز فلسفة نيتشه في جبة *جلباب * أُشبهها هنا بجبة الحلاج الشهيرة والتي صلب نتيجة سوء فهمها .
لقد قال الفيلسوف الاألماني- الأكاديمي والمدرسي كارل ياسبرز في حق نيتشه :
من الممكن أن نجد لدى نيتشه بصدد كل حكم نقيضه، فلكأن له في الأشياء طراً رأيين،وقد أمكن لمعظم الأطراف أن تختبئ خلف سلطته: الملحدون والمؤمنون، المحافظون والثوريون، الاشتراكيون والفرديون، العلماء المنهجيون والحالمون، السياسيون واللاسياسيون، أحرار الفكر والمتعصبون.( نفس المرجع السابق )
هكذا استطاعت العبثية غير المفهومة جيدا من طرف أغلب قراء نيتشه أن تجعلهم يعتقدون أنه يتحدث عنهم بالضبط ،ويحكي بلغة شيقة أحلامهم هم لا غيرهم ،ويتحدث بلسانهم الخاص الذي عجز أن يعبر عن رغبتهم في النفي المنهجي ،كلهم كانوا يرغبون في هدم الواقع المزري الذي يعيشونه ،وكلهم رغبوا بعد الهدم في بناء منظومة فكرية مغايرة ؛ ألم يقرأ الملحد والمؤمن نفس فكر نيتشه نفسه ،الفردي والجماعي ، الماركسي والرأسمالي …؟؟؟
ما يجذب في فكر نيتشه كالمغناطيس ليست الروعة ، فلا شيء رائع في نيتشه نفسه ،والروعة من المفاهيم غير المجدية في الفكر . يتمثل مغناطيس فكر نيتشه في الجدة والغرابة ؛طريقة تفكير تقلب الوجود رأسا على عقب ،وبدل قبوله كماهو ، يجب قبوله كما ليس هو ، أي يجب نفي كل الترهات التي تؤثث فضاءاته ، وليس رفضه ، فالعبثي هنا لا يرفض إنما ينفي ويهدم ، إنه يحتضن الوجود بذراعيه هو لا بأدرعة السلف…
ربما تعلم نيتشه النفي المنهجي من قراءته لكتب التاريخ ، فكونه فيلولوجي جعله يتعامل مع الكتب كما هي ،وبدون ترجمات ،والفيلولوجيا كما نعلم هي نوع من الدراسة التاريخية اللغوية لكتب التاريخ في سياقها التاريخي الصحيح دون ترجمة . الدقة هذا ما يفرضه الفيلولوجي على نفسه ،والتركيز المتناهي على دراسة الكتب كان بوابة للتدقيق في كل المنظومات الفكرية والفلسفية والأخلاقية السابقة على نيتشه ، هذا ما جعله ينتبه أكثر من غيره للكثير من التناقضات والأخطاء التي تحملها تلك المذاهب .
النافي المنهجي / العدمي ليس من حقه أن يؤسس مذهبا ، لكن الغريب أن نيتشه الذي مجد الفردانية حد الوله ،والذي يقول في أحد شذراته الكثيرة* أيها الإنسان في الأخير ليس لك إلا نفسك * تدخل في عباءته مذاهب كثيرة ،متناقضة ، ومتحاربة مع بعضها بعضا ،وهذا مرده عمق فلسفته ،وإلى الأفق البعيد لأفكاره المجنونة ؛ نعم إنها مجنونة بمعنى ما لأن العقل ليس هو مصدرها ، ألم يعتبر جورج لوكاش نيتشه مؤسس اللاعقلانية، حيث يقول في حقه :
نيتشه مؤسس اللاعقلانية في المرحلة الإمبريالية. وربما كان، في تحليله السيكولوجي للحضارة وأفكاره الجمالية والأخلاقية، الممثل الأكثر موهبة والأغنى بالتلاوين لوعي المشكلة المركزية والظاهرة الأساسية لتاريخ بورجوازية عصره الذي وسم بالإنحطاط *. نتشه محارب الأنحطاط وأخلاق العبيد .( نفس المرجع )
فرض انحطاط زمن نيتشه على نيتشه تغيير نظارتيه .
نبتشه ضعيف البصر ،نظراته كانت حادة وحزينة لدرجة أن سالومي حبيبته رفضته لبشاعتهما. تغيير أفق النظر ،حول فلسفة نيتشه من مولعة بفلسفات سابقة وفلاسفة آخرين ،إلى آلة هدم ونفي ، فلا شيء يستحق التعايش معه مادامت توجد في فساد أخلاقي وفكري وجمالي كبير .
كل من يسعون إلى نفي القائم أمامهم لأنه لا يناسب تصورهم للإنسان وللدور الذي يجب أن يقوم به يكون لهم مآلات مرعبة ،مرعبة حد الخوف من تبني أفكارهم ،وحد الإبتعاد عنهم كأن بهم طاعون معدي وأكثر .هكذا يجن نيتشه ، يعزل ، يدخل مشافي المجانين ، يثور ضد حصان ،يتوحد ؛كأن الوجود الذي عراه يريد الإنتقام من عمق فكره .
الحب الذي احتفظ به التاريخ لنيتشه يقابله أيضا كره شديد من الكثيرين ،وهو كره في عمقه حسد لا غير ، فقلة قليلة كبطل كتابه زرادشت من تجرأ على تحمل سفالة الوجود و حمل هم محاولة هدم هذه السفالة واستبدالها بفكر آخر ، لقد جن العبقري لأن العباقرة هم في الأصل مجانين الوجود الذين يصلحونه ، والذين يتجرؤن على اظهار كل عيوبه دون أن يخشون اتهام أحد لهم بالمروق ؛ عن أي شيء نمرق في هذا الوجود ؟؟؟.ربما هكذا فكر نيتشه .
يخبر برتراند راسل الفيلسوف البريطاني الكثير عن نيتشه ، لكنه ركز على أنه عدو المسيحية بدرجة أولى ، فالمسيحية نفت أخلاق الأقوياء واستبدلتها بأخلاق الضعفاء ،منكرة لقيمة الكبرياء والإختلاف والمسؤولية العظمى والنزعة الحيوانية الرائعة وغرائز الحرب وتأليه العاطفة والثأر والغضب والشهوانية والمغامرة والمعرفة، وكلها عناصر خير تقول عنها المسيحية إنها شر* (نفس المرج السابق ).
ما المعمل اتجاه أخلاق مثل هذه ؟؟؟
ألا يجب اتباع النفي المنهجي ، والهدم إزاءها ، ولا بأس إن كان سيكون مصير الهادمين والنافين هو الجنون أو الإعتقال أو القتل ، فلا بد للعالم لأشخاص يصححون أخطاءه . المسيحية مظهر ديني كأديان ومعتقدات كثيرة فشلت على منح تصور صحيح للإنسان وللوجود .