قبل عام وأشهر، أغلقت دار ميريت للنشر مقرّها الشهير في 6 ب شارع قصر النيل وسط القاهرة، انتقلت إلى شارع صبري أبو علم القريب. ظروف اضطرت صاحبها محمد هاشم إلى ذلك. وقتها كان حزينًا ومعه شبان وفتيات اعتادوا الذهاب والمجيء إلى المكان. حزن يتعلق بالخوف من فقد متنفس لممارسة الحرية والفن والحياة، وذكريات واحد من أهم بيوت الثورة. لكن الحزن لم يطُل، قلنا لبعضنا البعض: ستتجدد الحالة بشكل مؤكد مع المقر الجديد. الفكرة لم تصنعها الجدران ولكن أصحابها، سيصنعونها أينما حلّوا.
صدقت فكرتنا. انتقلت الحالة إلى المقر الجديد، وإن اتضح أننا لم نكن نعرف وحدنا. السُلطة أيضًا عرفت أن ميريت لم تنطفئ.. بالأمس، دهمت قوات الأمن المقر الجديد. شُرطة المصنفات تذكرت فجأة أن في مصر دورًا للنشر ربما تحوي كتبًا بغير أرقام إيداع!
المحامي محمد عيسى قال، وفقًا لموقع مدى مصر “المحجوب”، إن القوة الأمنية تحفظت على 11 كتابًا، بعضها يحمل أرقام إيداع، في حين صَدَرَ البعض الآخر من دونها، موضحًا أن “الكتب الأخيرة لم تكن معروضة للبيع، وإنما مهداة إلى صاحب الدار محمد هاشم”.
الأصدقاء قالوا إن القوات فتّشت بين الكتب وتصفحت الكثير منها! رغم أن البحث عن أرقام الإيداع لا يحتاج غير النظر في الصفحة الأولى من كل كتاب. ألقي القبض على شاب يعمل في المكان تطوعًا. تلك هي المرة الثانية التي يحدث فيها هذا خلال عام.
الجميع يعرف أنها ليست مسألة كتب ولا أرقام. الجميع يعرف ما تعنيه “ميريت” وما يعنيه محمد هاشم في الفترات الزمنية التي تحمل توترًا سياسيًا. ميريت وصاحبها يعنيان أرقًا حقيقيًا لأي سلطة. أنت تروح وتأتي اختلافًا مع هاشم، ولكن ليس أمامك إلا النظر إليه كناشر رفع سقف حرية الكتابة والتعبير إلى أقصاه مناضلًا يجسد المعنى الإنساني للنضال، ومقاوم مؤثر لركود المياه وقتما يراد لها ركود. هاشم القادر على الحشد في أسوأ الظروف، عليه السكوت هذه الأيام.
2
كان مبارك قد رحل قبل أشهر، ومرت الثورة المصرية بصدامات جاءت سريعًا مع ممارسات المجلس العسكري وقتها، والذي لم يستطع الصمود كثيرًا في محاولات تقديم نفسه كمساند لميدان التحرير. واقتربت الانتخابات الرئاسية الأولى موحية بآمال ستختفي بعد قليل. كان لا يزال لدينا إعلام عندما جلسنا نتفرج على المحامي الشاب خالد علي في لقاء تلفزيوني ضمن لقاءات مع المرشحين. لم أكن أعرفه. يعرفه أصدقائي السياسيون. سمعت اسمه مرّات وتصورته من المارين على الحالة محاولًا صناعة بعض الصيت، لكنني دهشت من الحديث الواعي والسقف الثقافي اللافت، المنتمي لقلب الثورة رفضًا للتفاوض على الموقف. تمتمت بأن خالد “بيتكلم كويس جدًا”. سمعني هاشم الذي يعرفه جيدًا، وتحمس مقترحًا استضافته في لقاء تنظمه “ميريت”، ومساندته حيث يعبر عن أفكار ننتمي إليها.
مرت السنوات سريعًا وحملت ما يعرفه العالم.. الآن تقترب انتخابات رئاسية جديدة. وبينما الإحباط أصاب الساسة بعدما حدث من إجهاض لكل الأحلام، لم يصب بعض من محبي “يناير”. أعلن خالد علي نيته للترشح في الانتخابات المقبلة، منافسًا وحيدًا للرئيس الحالي، بعدما قاد منذ أشهر قليلة معركة تاريخية في ساحات المحاكم، عرّفت العالم أن “تيران وصنافير” اتفاقية مرّت رغم أنف القانون والرغبة الشعبية. أيام قليلة، وتبدأ السلطة في تصويب سهام لبعض من المؤثرين، والمتوقع منهم مساندة المرشح الوحيد. احتجاز ماهينور المصري أشهر نشطاء الإسكندرية وأكثرهم تأثيرًا على الحماسة الجمعية للشباب، ومداهمة “ميريت” بحجة البحث عن كتب مخالفة للقانون.
3
هاشم منذ أيام قليلة:
“أدعم خالد علي. وأدعو لوقف الخلاف العبثي “نشارك ولا لا”، وأدعو كل من يرفض بيع الأرض وسياسات الإفقار والتجويع والتطبيع والقمع لرفع الصوت دفاعًا عن خطاب بديل”.
الخلاف العبثي الذي يقصده صاحب “ميريت”، وقع بين بعض قوى المعارضة حول جدوى ترشح خالد. أطراف الخلاف: إحباط، قلق من مواجهة نوع جديد لهمجية وتوحش السلطة، وأمل في إرجاع العمل السياسي وفتح المجال العام.
هاشم منذ أيام قليلة:
“مرض الاستبداد، عنوان ندوة الدكتور علاء الأسواني، الخميس القادم في ميريت. عنوان الندوة لا علاقة له بالانتخابات الرئاسية”.
والمعروف أن الروائي المصري علاء الأسواني، الذي اُختير منذ فترة لكتابة مقال دوري ضمن كُتّاب “نيويورك تايمز”، لم يعد يستطيع الكتابة في صحف مصرية بسبب من موقفه السياسي. تستضيفه “ميريت” أسبوعيًا أو كلما تيسر لندوة ثقافية أو سياسية، بينما في كل مرة يجلس أحد مخبري الأمن يسجل ما يُقال وما يحدث.
4
لطالما ازدحمت ميريت بالبشر، زحام يأتي مداه كـ”ترمومتر” للميدان. تمتلئ فتعرف أن التحرير امتلأ. يأتي بعضهم لاستراحة سريعة. إسعاف الأولي لجرح أو إغماءة، قبل أن يعاود النزول.الداخل من باب الدار طوال أيام الاعتصامات، سيجد الصالة الصغيرة، التي غطيت حوائطها بالكتب، مليئة بالشباب الخارج عن وصاية المنظرين، يأكل “لقمة” سريعة، يشرب شايًا دافئا، وتتبدل الوجوه بين ساعة وأخرى.
أثر هاشم ومكانه دفعا المشير طنطاوي “حاكم البلاد عقب رحيل مبارك” للوقوف ذات يوم في مجلس النوّاب عارضًا فيديو يلفق له تهمة تسريح البلطجية لأعمال التخريب.
يومها التفّ حوله شعراء وأدباء وناشرون وتشكيليون وسينمائيون من أجيال مختلفة، ملأوا مدخل العمارة ودرجات السلم القديم المؤدي لمقر دار النشر. أحاطوا به في مسيرة حتى ميدان طلعت حرب يهتفون: “سيبو الورد يفتح سيبو، هاشم منّا ومش هنسيبو”. وجاءت دموعه مثلما جاءته يوم فازت “ميريت” بجائزة نادي القلم الدولي من ألمانيا، كدار نشر ساندت حرية الكتاب والمناضلين، حيث وقفت وراء الكتابات والحراك السياسي المقاوم للقمع منذ أنشئت في 1998، أبرزها “كفاية”، و”أدباء وفنانون من أجل التغيير”. واحتضنت أبرز الوجوه الثقافية والسياسية التي غضبت عليها السلطة. فعلها هاشم مسنودًا بأسماء كأحمد فؤاد نجم وإبراهيم منصور وصنع الله إبراهيم وغيرهم.
رحلت عن الحياة أغلب الأسماء التي وفرت سندًا مناسبًا لدار النشر المقاومة لدنو سقف الحرية، وبات هاشم سندًا لشباب يرون في “ميريت” ملجأ لأحلام التغيير، أو في أسوأ الأحوال، يستعيدون بداخلها ذكرى مهد تلك الأحلام.
___
*ضفة ثالثة