سوبوربيكون/2017.. خيبة الحلم الأمريكي وفشل الجريمة “النموذجية”!

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

*حقا فكل أمريكي صالح يستحق أن يعيش في بلدة “سوبوربيكون” النموذجية، انها بمثابة االيوتوبيا السكنية- انها بمثابة “اليوتوبيا” الحلمية، فالمنازل مريحة وملحقة بمروج خضراء مشذبة وجميلة، ويبلغ عدد سكانها الستين الفا، حيث معظمهم “طيبون ودافئون وودودون”، حتى يتنغص عليهم عيشهم بتحرك عائلة سوداء صغيرة للعيش بينهم بين ليلة وضحاها، وحتى ساعي البريد الطيب السمين نفسه اصبح فجأة غاضبا وعاجزا عن ايجاد الكلمات الملائمة، كما يفقد رجل اعمال فجاة السيطرة على سيارته، كل ذلك يحدث في مشاهد تمهيدية، قبل أن تنطلق الغوغاء محاصرة للمنزل ومحتجة بالرايات الحمراء والصراخ والضوضاء، وصولا لقذف الطوب باتجاه المنزل البائس…اذن انه المكان المثالي للعيش الرغيد، شرط الالتزام بقواعد عنصرية محددة!

*التصوير يتم هنا من قبل “روبرت ألسويت” والموسيقى التصويرية من قبل “ألكسندر ديسبلات”، أما الأدوار الرئيسية فيقوم بها كل من: مات ديمون، جوليان مور، نوح جوب، جلين فيشر، اليكس هاسيل، جاري باسارابا واوسكار اسحق.

*انه حقا الحلم الأمريكي مرة اخرى في عقد الخمسينات من القرن الماضي، عصري ولامع من الخارج، ومخيف ومظلم من الداخلن مبني  على الكراهية والعنصرية والجشع والاساءة…انه حلم العائلات المتوسطة للعيش في الضواحي الجديدة، من كتابة الخوين البارعين “جويل وايثان كواان”، ولقد تحولت هنا “الكوميديا السوداء” لشيء مرعب في دراما عائلية قاتمة، ولقد لعب “تصميم الانتاج” دورا كبيرا في تحويل هذا لشريط لما يشبه التحفة السينمائية، هذا العنصر تحديدا الذي نهمله في السينما العربية او نتجاهله، كما يعود “المخرج-الممثل” جورج كلوني محترفا لنفس نمط ابداعه في فيلم “ليلة سعيدة وحظ سعيد” وقد تفوق على ذاته…حيث يستعرض بفضل قصة “شارلوتسفيل” قصة العنصرية في أمريكا، فالسكان الغاضبون يريدون فورا مغادرة العائلة السوداء.

*اما في الجوار مباشرة، فنلاحظ الشقيقتان التوأم المقعدة على كرسي متحرك روز ومارغريت(قامت جوليان مور بكلا الدورين باقتدار) عملية نزوح العائلة السوداء للسكن، وتدعو “مارغريت” ابن شقيقتها نيكي ذي الأحد عشر عاما للعب كرة السلة (البيسبول) مع الجار الصبي في نفس عمره، فيما يبدو غاردنر لودج ظاهريا كزوج وأب موثوق، اما القرائن فتبدأ مع مقتل “اليزتبيت” كجزء مخطط من عملية السطو التي قام بها مساء ذلك اليوم كل من اسرا ولويس (جلين فليشر واليكس هاسيل)، حيث يتماثل دور “ديمون” مع دور “مايكل دوغلاس” في فيلم “السقوط”، ويبدع باتقان دور ما يسمى “ضد-البطل” (آنتي هيرو)، اي ما يسمى “الضحية-المتآمرة”…بدت “مور” ناضجة تماما باداء دور التوأمتين، الا ان المخرج لم يسمح لنا حقا بتامل شخصية روز التي قضت واختفت مبكرا عن المشهد السينمائي، والغريب ان الصبي بدا وكأنه لم يتأثر كثيرا بهذا الفقدان، الا أن “اوسكار اسحق” أبدع حقا بدوره القصير كمحقق تأمين خبير بمثل هذه الحالات والتلاعبات وبدا وكأنه يستمتع تماما باداء هذا الدور، وكما سبق ونوهت فتميز “التصميم الانتاجي” مدعوما بموسيقى “ألكسندر ديسبلات” ساعدا معا ببراعة على اعادة “فقاعة” المزاج السائد في نهاية الخمسينات في هذه الضاحية السكنية الجميلة الهادئة، التي تتصاعد فيها الأحداث فجأة بهذه السخونة المعبرة واللافتة.

*بدأ الفيلم بمظاهر جمالية استعراضية للمدينة السكنية الجديدة، مع نغمات المبدع “ألكسندر ديسبلات” وعناصر تصميم “انتاج” لافتة لأمريكا لخمسينات البهية من قبل “روبرت السويت”، فيلم جيد يروي قصتين بطريقة متوازية، واحدة قومية والثانية عائلية، وينتهي بلا حلول، بل بتراجيديا مأساوية  بالنسبة  للقصة الثانية، جزء من المشكلة يكمن ربما في الاستعجال وسطحية الشخصيات نظرا للزخم السردي، حيث يحاول الثنائي “كلوني/هسلوف” رواية كل ما يجري من خلال عيون الصبي “نيكي” كما شاهدنا، فهو يتحقق من ان والديه وعائلته ليست مثالية كما يبدو، وان معظم جيرانه عنصريين وعنيفين، وليس كما يحاول ان يظهروا، كما ان الفيلم يفتقد للدعابة والشخصيت المثيرة للاهتمام، لذا يذهب مباشرة لدراما سطحية نوعا ما، ولا شك أن هناك تحريف ما لنص الأخوين “كوان”، ويمكن للمرء الحصيف ان يتبين ذلك بقدان عناصر الكوميديا السوداء الضرورية لتفوق مثل هذا العمل، وربما فشل “جورج كلوني” باظهار ذلك، بالرغم من طرافة شخصيتي “المجرم السمين ومحقق التأمين الوسيم” مع قصر هذه المشاهد، ولكن ربما قصد المخرج ان يظهر بلادة وملل شخصيتي “ديمون ومور” كرمز لشخصيات الطبقة الوسطى “اللئيمة والأنانية والباطنية”، عكس الطاقة التفاعلية الجذابة التي اظهرها كل من “اسحق وفليشر” بدورهما القصير اللافت، وقد ذكرني ذلك بالدور القصير البالغ التأثير والتعبير للممثل التركي (الذي اجهل اسمه) والذي ابدع بتقمص شخصية حاكم درعا “المستبد والشاذ جنسيا” في تحفة “لورنس العرب” الشهيرة.

*في حين تستهدف عائلة “مايرز” السوداء بسبب لون بشرتهم، هناك نوع جديد من الشر الخالص يلعب في البيت الأبيض المجاور لهم…حيث تتم الامور هنا بخفاء وحذر ومكر ودهاء، فيما يعاني السكان المجاورون من “الغضب العنصري” المحتدم، بينما هم يريدون فقط العيش بسلام حسب الوصف الوارد في كتيب الضاحية الدعائي، والذين يواجهون بردود افعال عنيفة غير متوقعة، وربما يعد ذلك استنساخا واقعيا للقصة الحقيقية التي حدثت في العام 1957، وكان ابطالها وليام (ليث بورك) وزوجته ديزي مايرز (كاريما ويستبروك)، والسيناريو لم يظهر الزوج الا متأخرا، فيما شاهدنا قصة ديزي وابنها ومعاناتها منذ البداية تقريبا، حيث يقال لها في المول بأن تكاليف قارورة الحليب وكل المستلزمات الاخرى لا تقل عن 20 دولارا في هذا المول وعليها الذهاب لسوبرماركت آخر بعيد اذا لم ترد الشراء بهذه الأسعار، فيما تتعرض الاسرة المسالمة لازعاج تصاعدي ولمضايقات الغوغاء خارج منزلهم كل ليلة، ثم ترتفع الأصوات المحتجة والشعارات العنصرية، وتتطور لرشق المنزل بقطع الطوب، وصولا للنهاية المأساوية المتوقعة.

*فيما تتمزق عائلة “غاردنر لودج” تدريجيا بفضل “المؤامرة والتواطىء والجريمة”، حيث يقتحم مجرمان من اصحاب السوابق (جلين فيشر وأليكس هاسيل) بيت لودج في ذات مساء، ويستخدمون مخدر الكلوروفورم لتخدير كامل العائلة، فيما يزيدون جرعة التخدير بقصد لتقتل الام المقعدة، ليتم  استبدالها فورا وبسلاسة من قبل شقيقتها التوام “مارغريت” (تقوم جوليان مور بالدورين معا)، ولكن الفتى النبيه “نيكي” يشعر بحدوث شيء مريب، ثم يأتي القتلة لمقابلة غاردنر في مكتبه مع مطالب مالية كبيرة يحاول هو التهرب من دفعها، ثم يظهر أخيرا المحقق التأميني المخضرم “اوسكار اسحق”، بعد حوالي الساعة، مشتبها بوجود شيء “كريه الرائحة” في بوليصة التامين المعتمدة، محاولا كشف التلاعب وابتزاز الاسرة ماليا بصراحة وبلا حذر واحتراس، ليدفع حياته ثمنا لجشعه ومصارحته وتسرعه، ولولا ظهور هذا الممثل اخيرا بطاقته وجاذبيته وانفعالاته، لبدا الفيلم خافتا ومنطفئا وربما مملا، لافتقاد الشخصيات الاخرى للتألق (ربما بقصد)، واختفاء الحوار البارع المثير للاهتمام،ولبدت معظم المشاهد متماثلة لحد كبير مع المروج المزروعة المسطحة ” المشذبة جيدا” في باحان الضاحية السكنية الجميلة.

* تتنافس القصتان المتوازيتان على وقت الشاشة، وتستهلكان اهتمام المشاهد في تناقض وتضارب شيق واضح، وربما لم ينجح “جورج كلوني” تماما في سرد القصتين بطريقة مكتملة وبالغة التأثير كما يجب، ولكنه نجح لحد بعيد بتذكير الناس بالأحداث العنصرية الأخيرة التي تمت في “شارلوتسفيل”، وكيف تضافر ذلك بالتوازي مع  احداث الجريمة الموازية المروعة في البيت الهادىء المجاور، مع كثرة الضحايا ( الام والزوج والخالة والخال والقاتلين)، لتؤكد الوهم الكاذب المخادع بأن أمريكا هي بلد الأحلام، وأن علينا أن ننبش تحت سطح “المروج الجميلة” لنكتشف بؤس الحقيقة الصادمة!

*باحث وناقد سينمائي/ 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *