التسييس، كما ألمحت في مقالة سابقة، ظاهرة أساسية في المعرفة الإنسانية، لا غرابة فيها ولا حاجة لتبرير وجودها؛ ما نحتاجه هو التعرف عليها وإدراك حجم تأثيرها، لا سيما أن كل المشتغلين في حقول المعرفة معرضون لذلك التأثير، سواء فيما يتلقون من المعرفة المسيسة أو ما ينتجون منها، إن كانوا من أهل الإنتاج. إننا لا نتحدث عن مواقف مسيئة أو مخططات مضللة بالضرورة، وإنما عن مصالح شخصية أو فئوية تتسرب إلى خطابات المعرفة بوصفها نتيجة طبيعية لكوننا بشراً نعيش في مجتمعات، لنا مصالح وتربطنا علاقات بالآخرين، بعضها إيجابي وبعضها سلبي.
كل ذلك من المحتم أن ينعكس بقدر ما على ما نتلقى وما ننتج. والمشكلة ليست في وجود ذلك، وإنما في عدم معرفته أو ممارسته باستمراء وعلى نحو مكشوف ومتعمد. فالإشكاليات التي أشير إليها موجودة، سواء عرفناها أم لم نعرفها.
لقد أدرك وجود الإشكاليات التي أشير إليها عدد كبير من النقاد والمفكرين، وجرى تناولها في أعمالهم تحت عناوين مختلفة وضمن مفاهيم ومصطلحات متعددة، ويبدو أن الوعي بوجودها ثم الكشف عنها وتحليلها من سمات الفكر المعاصر، بانعكاساته الذاتية أو استبطانه لمكوناته على طريقة الفلاسفة في تعمقهم لمناهج المعرفة ومكوناتها وآليات تشكلها، أي البحث الإبستمولوجي، أو على طريقة علم النفس في استكشاف مجاهل النفس الإنسانية. تطورات كثيرة ساعدت على الكشف عن أن إنتاج المعرفة الإنسانية ليس ناتجاً عن مجرد رغبة في توسيع مساحات المعرفة أو خدمة البشرية. تلك موجودة غالباً، لكن ترافقها أمور شخصية أو فئوية تتأثر بمصالح أو مخاوف أو رغائب، وتتفاوت بتفاوت الأشخاص واختلاف الزمان والمكان.
لربما كان أحد أهم من توقفوا عند مسألة التسييس في المعرفة، وأشبعوها بحثاً وتحليلاً، الفرنسي ميشيل فوكو في أعمال ومفاهيم كثيرة، يأتي في طليعتها مفهوم الخطاب المعروف لدى كل من قرأ فوكو. فالخطاب عند المفكر الفرنسي منتج معرفي لغوي يحمل ملابسات فردية وجماعية، يؤطر المعرفة والثقافة بمؤطرات شخصية أو جماعية تعكس في نهاية المطاف سمات تاريخية واجتماعية ومصالح فئات وأفراد.
ومع أن فوكو لم يتوقف عند النقد الأدبي بوصفه فرعاً من فروع العلوم الإنسانية، فإن ما قاله عن تاريخ تلك العلوم وكيفية تطورها وما تخلل ذلك من ملابسات ينسحب بسهولة على النقد، مثله مثل غيره.
وليس فوكو بتحليله مجدداً كل الجدة، ففي خلفيته تكمن مكونات ماركسية تنظر لما أصّله الفكر الماركسي من وعي بما يكمن في خلفية الثقافة من صراعات، سواء كانت اقتصادية أم سياسية أم اجتماعية. وقد أفاد فوكو من ذلك مثلما أفاد معاصره بيير بورديو في دراسته للثقافة، ومثلما أفاد قبلهما غرامشي، وبعدهما إدوارد سعيد وغيره.
كان إدوارد سعيد ممن عنوا بتسييس النقد الأدبي وتحيزاته وأهواء النقاد وحرصهم على مصالحهم. ففي مقالة له حول «النقد اليساري الأميركي»، يكشف سعيد عن الكيفية التي تخلى بها نقاد أميركيون عرفوا بيساريتهم عن توجههم السياسي والآيديولوجي ممالأة للمصالح السياسية الأميركية. يؤاخذهم سعيد، وهو يساري التوجه أيضاً، لاستكانتهم وصمتهم أثناء ثمانينات القرن الماضي، أي في عهد ريغان.
مع أنهم مثقفون يفترض أن تكون لهم مواقف مما يجري، فقد آثر أولئك النقاد أن يتجاهلوا ما تفعله حكومتهم حول العالم، فمضوا يكتبون وينشرون كأن شيئاً لا يحدث. يطالبهم سعيد بأن يكونوا مثقفين عضويين بالمفهوم الغرامشي، مثقفين فاعلين متفاعلين مع الأحداث لا منكفئين كأنه لا علاقة لهم بما يحدث حولهم.
هذا التحليل لمواقف النقد الأدبي نجد ما يشبهه لدى الناقد البريطاني دونالد ديفي، في تحليله لمواقف النقاد الغربيين، وصمتهم الممالئ للمواقف السياسية لحكوماتهم في أثناء الحرب العالمية الثانية، وفي فترات الخمسينات والستينات. لكن نظرات أكثر توسعاً تطالعنا حين نتابع ما أنتجه تيار ما بعد الكولونيالية / الاستعمارية منذ ثمانينات القرن الماضي، أي ما أنتجه نقاد هنود وأفارقة وآسيويون في الكشف عن المضمون السياسي، سواء في النقد الأدبي وغيره. يكفي أن نتأمل عنوان كتاب مثل «سياسيات التفسير»، الذي نشر ديفي مقالته ضمنه، لنجد أيضاً ناقدة مثل البنغالية غاياتري سبيفاك تتحدث عن إشكاليات كتلك. لكن الأطرف هو أن جهود ناقدة مثل سبيفاك، وهي من رواد النقد ما بعد الكولونيالي، تتعرض هي الأخرى لنقد يكشف عن السياسيات التي تكتنف بعض أعمالها، فيما كتبه الناقد الهندي إعجاز أحمد في كتابه «في النظرية»، الذي يأخذ عليها وعلى نقاد هنود آخرين هجروا بلادهم ليستمتعوا بهواء الحرية ونعم الديمقراطية والحياة المترفة في الغرب.
وسبيفاك في نظر إعجاز مثلها في تلك الهجرة مثل هومي بابا الذي يشغل كرسياً في النقد الأدبي في جامعة هارفارد حالياً، والذي يعد رائداً آخر من كبار رواد الدراسات ما بعد الكولونيالية. ولا يكاد أحمد يوفر أحداً، فحتى إدوارد سعيد في نقده للاستشراق يتعرض في كتاب أحمد لتحليل يكشف عن ملابسات وتحيزات لا تخلو من تسييس.
وبطبيعة الحال، فإن أحمد نفسه معرض لمثل نقده لغيره، ضمن عملية الاستبطان أو نقد النقد الذي ازدهر في العقود الأخيرة على النحو الذي ألمحت إليه قبل قليل. أما محصلة ذلك، وهي بالتأكيد ليست المحصلة النهائية، فإنها تضخم في الوعي من شأنه، في أفضل الحالات، أن يجعل المعرفة والممارسة المتأتية عن طريق تحليل الأدب وتقويمه، أي ما نسميه النقد الأدبي، أكثر وعياً بإشكالياته وإدراكاً لمحدودية توجهاته وانغراسه في مشكلات الحياة الاجتماعية، أكثر انتباهاً لتحيزاته وأهوائه، بما لا يقلل من أهميته وإنما يشحذ همة أهله للعمل ضمن الوعي بتلك التحيزات والأهواء، في مسعى للحد منها والتقليل من أثرها.
يبقى أن أقول إن النقد العربي الحديث يعيش أيضاً نوعاً من الوعي بما أشير إليه من تسييس بتزايد الوقفات المحللة لإشكالياته، سواء في علاقته بالأدب أو بالتيارات النقدية التي يتفاعل معها؛ أقول نوعاً من الوعي لأننا لم نحقق بعد معدلات عالية منه، كماً وكيفاً. أما السائد، فهو جهل أو تجاهل لهذه الجوانب يؤديان إلى إنتاج معرفة تتسم بالثقة المطلقة تقريباً بعلمية النقد وصدقه وأمانته، إلى غير ذلك مما يتضح في النهاية أنه أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع.
______
*الشرق الأوسط