“مسك التل” لسحر الموجي.. إعادة كتابة شخصيات محفوظ وبرونتي

*وجدي الكومي

كم كاتبا ود أن يكتب شخصية قرأها في عمل زميل له؟ قرأ غابرييل غارسيا ماركيز رواية “الجميلات النائمات” لياسوناري كواباتا، ولم يتخلص من سحرها، وتذكر شخوصها، حينما جاءت تلك الجميلة، وجلست بجواره في الطائرة التي أقلته إلى اليابان، واستغرقت في نومها. يسأل ماركيز نفسه وهو على مقربة من الجميلة: هذا التجاور اللامتوقع إلى أي منا سيحمل التعاسة؟ واسأل نفسي بعد الانتهاء من رواية “مسك التل” لسحر الموجي: هل نحن بإزاء موجة جديدة من استحضار شخوص في أعمال أخرى وإعادة كتابتها في أعمالنا؟

ما فعله ماركيز في إعادة كتابة موضوع رواية كاواباتا من الأمور المشروعة ويسمى التناص الأدبي، وهو شكل من أشكال ولادة عمل من عمل آخر، ربما يبدو أكبر، ويشهر راية التحدي، بما سيقدمه في موضوعه. يضع التناص العمل الجديد، عنق صاحبه على سن الرمح، لأن القراء سيقارنونه بالعمل السابق، وربما ينجو صاحب العمل الجديد، بالرهانات التي سيراهن عليها، وبالخيارات التي سيختارها، لكن لماذا صار التناص الأدبي مرذولا في ساحتنا الأدبية العربية؟ ترد سحر الموجي الاعتبار للتناص، في عملها الأحدث، وتفتح المجال كاملا أمام مقارنته، بعدما استدعت شخصيتي “أمينة عبد الجواد” من ثلاثية نجيب محفوظ، و”كاثرين إرنشو” من رواية “مرتفعات وزرنغ” لأميلي برونتي.

سعادتي برواية “مسك التل” تكمن في لعبة التناص التي تلعبها سحر الموجي، اللعبة الغائبة عن المشهد الأدبي العربي، الذي يسهل فيه اتهامات النقاد للكتاب بالسطو على الأفكار، اللعبة هنا مختلفة، فسحر الموجي تعيد كتابة شخصيتين من عملين كبيرين، لنجيب محفوظ، وإميلي برونتي، وتقدمهما في سياق حبكة جديدة، يتجلى في ظهورهما المفاجئ في قلب القاهرة عام 2010، ولقائهما بالطبيبة “مريم” التي هجرت الطب النفسي، وتعيش في كوابيس وعزلة بعد وفاة زوجها ناجي، ورحيل أمها ناهد، التي كانت سببا من أسباب كوابيسها، وبؤس حياتها.

تغادر مريم بيتها في أحد الأيام بدون مبرر، بعد عزلة طويلة جعلت حارس عقارها ينسى وجودها، لتلتقي بأمينة وكاثرين في شارع المعز لدين الله، أمينة وكاثرين جاءتا إلى الشارع بعد عاصفة ما، نقلتهما من إقامتهما الافتراضية في ما يعرف بـ”بيت السيرينات”، تفتل سحر الموجي خيوط اللعبة الافتراضية، منذ البداية، فالبيت، هو محل إقامة النسوة اللاتي كن بطلات في أعمال روائية، والبيت يسمى باسم “السرينات”، هناك تلتقي بأوفيليا حبيبة هاملت، وعزيزة بطلة يوسف إدريس في روايته “الحرام”، وفيرجينيا وولف، وكاثرين، هناك تكتشف أمينة بنت الشيخ عبد السلام الخضيري، أنها لم تزل حية، بل وتقرأ قصة حياتها في كتاب تجده في مكتبة عملاقة، عنوان الكتاب هو “بين القصرين”.

لكن مريم الطبيبة لا تصدق أنها تلتقي أمينة بطلة “نجيب محفوظ”، تلقي سحر الموجي في قلب قارئها الشك في مسار الحكاية، تقول مريم لأمينة: “أنت مش ساذجة وعلى نياتك زي الست اللي في الرواية”، لا تكتفي سحر الموجي فقط بإثارة حيرة القارئ، بل تسرب رأيها في كتابة محفوظ لأمينة، عبر صوت مريم، كأنها تحتج احتجاجا خافتا، أنه هيمن على روحها، وجعلها ضعيفة في مواجهة أحمد عبد الجواد، نستوعب بعد صفحات قواعد اللعبة التي تفرضها على قارئها، تعيد سحر الموجي كتابة شخصية أمينة، كما أحبت أن تقرأها، على نحو آخر، سترد لها الاعتبار.

أمينة سحر الموجي، غير أمينة نجيب محفوظ، الأولى تتمتع بحنان وطيبة الثانية، إلا أن الأولى إرادتها أقوى، تقرأ، وتعمل، تخرج يوميا بحثا عن شغل، كي لا تظل عالة على الطبيبة مريم، وبعد صفحات، ويا للعجب، نكتشف أنها أجادت الإنكليزية، وبدأت تترجم صفحات من رسائل فيرجينيا وولف.

وكما أعادت سحر الموجي كتابة شخصية أمينة نجيب محفوظ، انتزعت أيضا كاثرين برونتي من صراعها وضعفها في مواجهة “هيثكليف”، جعلتها تحلم بالتحرر، والعيش في مجتمع آخر، تبحث كاثرين عن الاندماج في القاهرة، وتعمل مدرسة إنكليزية، تطاردها هلاوس حياتها السابقة في بيت “السرينات” وحياتها في حكاية “مرتفعات وزرنغ”، كاثرين الجديدة، ترتبط بيوسف، مدرس الدراما في المدرسة، معه تكف عن عيش هذيانها، وتحاول أن تعيش الحياة، عملا بمقولة “يوسف”: “طالما عايشين يبقى نعيش”.

تربط سحر الموجي بين الشخصيتين، بهلاوسهما، وأحلامهما، وكوابيسهما، بشخصية “مريم” هي أيضا تعاني من كوابيسها، زوجها ناجي الذي أصيب بالسرطان، ورحل فجأة، وأمها ناهد التي عانت من قيدها، يبدو أن اختيار شخصية مريم بهذه المواصفات، متناسبا تماما مع شخصيتين قادمتين من عالم الروايات، لتبدو الحكاية منسجمة مع عالم الأحلام، وإعادة كتابة المصائر، وكأن الحياة هو ما تعيشه هذه الشخصيات في عقولها، وليس في واقعها، وكأن الموجي تقول: إن بوسعنا دائما أن نعيد تشكيل هذا الواقع بخيالنا، فأمينة لم تنته حكايتها في “بين القصرين” وكذلك “كاثرين إرنشو”، بل تظهران في رواية ثالثة هي “مسك التل”، تمنحهما الموجي فرصة لتعيشا مرة أخرى، حياة متجددة تسخر فيها أمينة عبد الجواد من “سي السيد” ومغامراته النسائية، وتعيد استكشافها لعلاقته الزوجية معها، مقارنة بعلاقاته مع العوالم والغواني، حياة جديدة تعيشها كاثرين، بعد موتها في “مرتفعات وزرنغ” مع يوسف، تطرح سحر الموجي سؤال الزمن، بقولها في نهاية الرواية: نحن لن نمل أبدا من محاولة فهم الزمن؟ الموت.. هل هو زمن آخر؟ هل نعيش في الأبد المطلق دون أن ندري؟

لذلك كانت رحلة البطلة الرئيسية مريم إلى بيت السرينات حينما سقطت في غيبوبة، ومقابلتها هناك بعزيزة بطلة يوسف إدريس، وفيرجينيا وولف، في حلم طويل يعزف هو الآخر على سؤال الرواية الرئيسي: هل نحن شخوص في أعمال روائية يكتبها آخرون؟ أما أننا حقيقيون؟ نعيش حيوات مختلفة، بأوجه مختلفة أيضا؟

ردت سحر الموجي الاعتبار إلى سؤال التناص، والمغامرة في النص الأدبي، ومنحت لنفسها الحق الذي يخشى الكثيرون من أخذه، وهو كتابة شخصيات نحبها في أعمالنا الأدبية، وضربت بعرض الحائط كل هواجسنا ومخاوفنا من النقاد وأحكامهم عن الجدل المستمر المعروف بـ”السطو الأدبي” والفكرة الأولى، ففي مغامرتها هنا في “مسك التل”، ابتكرت شخصيات جديدة، ولدت من رحم الشخصيات الأولى، وتجاورت معها، بما رسمته لها من مصائر، وما قررته لها من أفكار.
_________
*المدن

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *