إصبع صغيرة للأمير الكبير

*لانا المجالي

الأمير الكبير

في السنوات الأربع الأولى من عمره، كانت الدهشة تلوّن وجه طفلي في كل مرّة أروي فيها حكايات ممتعة عن الكوكب البعيد الذي جئتُ منه.

في عيد ميلاده الخامس، اضطررتُ تحت ضغط إلحاحه الشديد، أن أفسّر له حقيقة القوانين التي تمنع إنجاب الأطفال في موطني الأصليّ، ولكنها في المقابل تسمح للراغبين بأن يكونوا آباء وأمّهات بالهجرة إلى أيّ كوكبٍ آخر؛ شرط التخلّي عن الجنسيّة الوطنيّة.
اعترفتُ له أن قرار الإنجاب لم يكن ضمن قائمة أهدافي الحياتيّة، لكنني ودون تخطيط، وقعتُ في غرام طفل اسمه محسن ظهر في بحثٍ علميّ مصوّر يتناول أحوال كوكب الأرض في الألفيّة القادمة. عندها حلمتُ بأن أصير أمّه، وكان عليّ أن أغامر بكل شيء لتحقيق حلمي ذاك.

خلال سنته السادسة، كنتُ ألمحهُ يدور حول سيّارتنا الفضائيّة الحمراء(هونداي آكسنت)- وهي الذكرى الوحيدة التي سُمِحَ لي بالاحتفاظ بها – وهو يردِّد: “علينا أن نغامر بكل شيء لتحقيق أحلامنا”.
عندما بلغ سن السابعة، كانت المفاجأة عندما واجهني قائلاً: “حسناً؛ أنتِ تملكين مُخَيِّلة طفوليّة، وأنا لا أصدّقك لأنني كبرت”. في ذلك اليوم، لاحظت للمرّة الأولى، أنَّ إصبعاً سادسة صغيرة، نبتت في كفّ ابني، الأمر الذي أصابني بالحزن والإحباط، وجعلني أستعيد مشاعر البطل في رواية(الأمير الصغير- لأنطوان دوسانت- أكزوبيري) عندما وصف الأرض: ” يا له من كوكب غريب؛ إنّه كوكب جاف ومدبّب ومالح، والناس فيه يعوزهم الخيال. إنهم يكرّرون ما يقال لهم…”.

الإصبع الصغيرة

يؤكِّد الفيلسوف الفرنسي ميشال سار في كتابه “الإصبع الصغيرة/2012/ ترجمة: د. عبد الرحمن بوعلي/2014)، أن التطوّر التكنولوجي، أفرز إنساناً جديداً، أطلق عليه اسم “الإصبع الصغيرة”؛ نسبة إلى الطريقة التي يتعامل بها مع الشاشة، من خلال إصبعه.

لكن هؤلاء الأطفال/الشباب –رغم شبكات التواصل والاختلاط المتنوّعة فيما بينهم- يعيشون في عالمٍ افتراضيّ ومعزول؛”فالعلوم المعرفيّة بيّنت أن استخدام الإنترنت، وقراءة الرسائل أو كتابتها بالإصبع، واستخدام الويكيبيديا، أو الفيسبوك، لا تثير الخلايا العصبيّة نفسها، ولا المناطق القشريّة، مثل استخدام الكتاب أو اللوح، أو الدفتر”؛ إذ إن الإصبع الصغيرة لا تملك رأس أسلافها؛ فرأس الإصبع الصغيرة الملقاة أمامها في هذا الصندوق المعرفيّ تختلف عن الرؤوس القديمة “المصنوعة جيّداً، والمملوءة جيّداً”؛ بحسب ميشال سار.

سابقاً، كانت الرأس حاملة المعرفة، قبل اكتشاف الكتابة ونقل المعرفة بالكتب، واليوم تسيّطر التكنولوجيا على التعليم. ومع تغيُّر الوسائل والتقنيات “يتحوَّل الجسَد، وتتغيَّر الولادة، ويتغيَّر الموت، والألم والشفاء، والمهن، والفضاء، والسكن، ووجود الإنسان في العالم”، والحصيلة المؤقّتة أن علينا طرح الأسئلة: ما الأدب الذي تتذوقه الإصبع الصغيرة؟ وما هو التاريخ الذي تفهمه؟ ما الذي يجب تعليمه؟ أيّة معرفة بعد أن صارت –المعرفة- مُتاحَة، ومُجسَّدة، ومجموعة، وجماعيّة، وموصولة، وموصِلة إلى المُتعة، ومُراقَبَة، ومُراجَعَة، ومتغيِّرة؟

الفجوة

يحذّر ميشيل سار -في كتابه أعلاه- من أن هذه التغيّرات النادرة والكبرى في التاريخ ترافقها تبدّلات اجتماعيّة، واقتصاديّة، وسياسيّة، ومعرفيّة، وثقافيّة، كما أنها “تخلق، في زمننا ووسط مجموعاتنا، فجوة عريضة جدّاً،حيث قليلة هي العيون التي تقدر على قياس حجم صدعها الحقيقيّ”.
ودون أن أحاول عقد أي مقارنات بين أوطاننا وبلدان العالم المتقدّم؛ حيث الاهتمام بالأساليب التربويّة الحديثة والطرق المبتكرة في تقديم المعرفة، أشعر بالارتباك وأنا أطرح السؤال حول مدى توفّر وسائل قياس ومعالجة للأزمات في بلادنا العربيّة النامية؛ في الجانب المعرفيّ التعليميّ -الأدب والفن تحديداً/وهو الموضوع الذي تتناوله هذه المقالة- على أقل تقدير.

والحال كذلك، لا يسعني إلا أن أدقّ جرس الإنذار من خلال تجربتين وضعني القدر بمواجهتمها خلال هذا العام:

أولاً- تجربتي مع طالبات وطلّاب الصف السادس في مدرسةٍ خاصّة (عمّان/الأردن) خلال محاضرة تتناول الكتابة الإبداعيّة، أظهرت تفاعلاً غير محدود من قبلهم، لكنها في المقابل كشفت عن مشكلة فقر المخيّلة لديهم، وعدم قدرتهم على تجاوز حدود المألوف والمتوقّع أثناء محاولاتهم المتكرّرة للإجابة عن سؤال: ماذا لو …؟/ ماذا لو كنّا نعيش تحت الماء؟ ماذا لو كنّا نربي الفيلة في بيوتنا؟ ماذا لو قرّرت الدولة إغلاق المدارس؟ ماذا لو كنّا نمشي بواسطة رؤوسنا؟ ماذا لو كنّا نفكّر بواسطة أقدامنا؟ ماذا لو امتلكنا خمس عيون؟

وكشفت تلك التجربة عن الضرر الذي ألحقه التعليم من خلال التلقين على أفكارهم، إذ جاءت معظم إجاباتهم/إجاباتهن عن سؤال: “لماذا تريد أن تكتب/تكتبي؟”، تقليديّة –بفعل المناهج وكتب الأطفال- تدور حول فكرة ” كي أرشد الناس إلى الطريق الصحيح، أحذّر الناس من الأخطاء،أدلّهم على … “، ولا يمكن أن أنسى أصوات ضحكاتهم المكتومة عندما شاركتهم بعض إجاباتي عن السؤال نفسه: (أريد أن أكتب كي أستمتع، حتى أمنح الآخرين بعض المتعة، كي أتعرّف على نفسي، لأنني غاضبة، لأنني سعيدة، كي أنشر الفرح بين الناس، أكتب كي أتخلّص من أخطائي، لأنّني أمقت الحروب، كي أغيّر العالم …).

ثانياً- مشاركتي في لجنة تحكيم مسابقة الكتابة الأدبيّة للأطفال، وفيها استقبلنا النصوص التي كتبها الأطفال (الشعر، والقصّة، والمسرحيّة، والخاطرة) من مختلف محافظات الأردن في المرحلة العمريّة من (7 أعوام إلى 17 عاماً)، وكشفت أن نسبة النصوص التي تتضمّن جرعة من الخيال الجامح لا تتجاوز 10% منها فقط، وتلك التي تتناول موضوعات متجدّدة تناسب تلك الفترة العمريّة؛ مثل الحريّة، والرفق بالحيوان، والطبيعة، والأصدقاء، والقراءة، تعادل ما نسبته 20%، أما بقيّة النصوص فقد أظهرت أنَّ أطفال اليوم/ أدباء المستقبل مشغولون بمرض السرطان وعلاجه، والحروب، والبطالة، وعمالة الأطفال، والفقر، واللجوء، والزواج، هذا بالإضافة إلى الموضوعات التقليديّة الخطابيّة المباشرة مثل ؛شعر الحكمة، والشعر الوطنيّ، وحنان الأمّ والبرّ بها؛ بطبيعة الحال.

إصبع كبيرة للأمير الصغير

لم أتمكّن بعد مرور هذه السنوات من إقناع ابني بحقيقة أنني لم أكذب عليه بشأن طبيعتي الفضائيّة، وأنّني مثل كل عشّاق الحياة، لا أنتمي للموت والكراهية. نحن الذين نحتفظ بطفولتنا تحت ياقاتنا الرسميّة، وفوق أوراقنا البيضاء، وفي أحلامنا الليليّة وهي ترحل بنا إلى كواكب بعيدة منسيّة.

إن الإصبع الصغيرة مطالبة بمقاومة حالة الآلة التي تكتفي بتلقّي المعرفة المتاحة والمجسّدة، وعليّ في المقابل واجب لفت انتباهها إلى المعرفة المتسائلة، والخيال، والحدس، والمشاعر، والتأمّل في الكون.

علينا أن نتعاون لجعل الحياة ممكنة ومتعدّدة وجميلة، وبتعبير ميشال سار: “ومن دون أن يعطي كل منا للآخر دائما أكثر، نحنُ نعيش مجتمعين اليوم؛ بصفتنا أطفال الكتاب، وأحفاد الكتابة”.
_________
*العدد 61 من مجلة الإمارات الثقافيّة.

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *