” وسطى الأباخس” للكاتب عبدالجليل لعميري… من قبح الواقع إلى جمالية الإبداع

خاص- ثقافات

*ذ. عبدالرجاء  لهديلي

               إن أول ما يستوقفك، وأنت تقرأ هذه المجموعة القصصية للكاتب عبد الجليل لعميري، هو عنوانها “وسطى الأباخس”، وهو عنوان مثير للجدل، ليس فقط بالنسبة للقصة التي تدور أحداثها حوله، و التي جاء موقعها في الصفحة الثلاثين من الكتاب بعد قصة الخيالة، الكولية، كسكس بشحمة الأذن، حكاية قصتي مع النعناع، رداءة الكائن وبنت الخادمة. وإنما ما يثير جدلا هنا هو موقعه كعنوان للمجموعة القصصية ككل، وسنفهم فيما بعد أنه عنوان يستحق هذه المجموعة، لأنه يربط جميع الأحداث التي شكلت بنية السرد  في ألاثين وثلاثين قصة المشكلة لهذا الكتاب.

            تطرح المجموعة القصصية “وسطى الأباخس” أربع مشكلات أساسية هي : السياسة، الثقافة، الاقتصاد، ومشكلة أوسع منها وهي المجتمع (معاجم القصص غنية بمفردات تدل على هذه المشكلات)، رغم أن نسبة حضور هذه المشكلات وتداخلها متفاوت الى حد ما، بالنظر إلى تنوع القصص وكثافة الأحداث التي تحاكي الواقع بلغة رمزية جميلة، تحاول تلطيف رداءة الوضع الإنساني وجعله وضعا قابلا للعيش رغم كل المعاناة التي يخلقها للكائن البشري، ألطواق للتغيير والباحث عن واقع أفضل، وهذا الكائن يرمز في مجموعتنا القصصية إلى الوعي في مقابل التخلف و الجهل ( رغم أن الجهل في أخر المطاف سينتصر على الوعي لكونه معززا بسلط دينية وسياسية وثقافية ). وهما تيمتان تعكسهما، في المجموعة القصصية شخصياتها أووقائعها أوأماكنها…، فشخصية المعلم مثلا قد حضرت في عدد من القصص (الخادمة، الدفراء،الرسالة التي، إخلال بالحياء…) و هي تدل من حيث رمزيتها على العلم والمعرفة، وكذلك الشاب الواعي بمشاكل البلدة والذي ذهب إلى الخارج وأرسل رسالة إلى المعلم في قصة “الرسالة التي“، والرجل الذي له تجربة نضالية في السياسة، في قصة “مقهى الحصائر” وبائع الكتب في قصة ” كبوة إحساس وفوكو بدرهمين” والكاتب الذي يتحدث مع ضميره في قصة “السيد الكلديبي” والنائم الذي يحلم بكوابيس في قصة “كوابيس ملونة”  والتكنولوجيا والمعلومات في قصة “حوسبة الرئيس” أو في قصة “تقشير الأنف” وكذلك تأنيب الضمير في قصة “جور ـاـ نوي“أو في “قصة الصوت” والمرأة التي استاءت من ظاهرة الانتخابات وعبرت بطريقتها عن قلقها من الوضع في قصة”جحش متسيس”، كما فعل الرجل المستاء من الوضع في قصة” النخيل والبيوض“، وصاحب الوصية في “وسطى الأباخس” والشاب المثقف في قصة” سيرة النار“، والشابة المبدعة في قصة “حكاية قصتي مع النعناع“…، كلها شخصيات ومظاهر ترمز إلى قيمة العلم والوعي في مقابل التخلف و الجهل الذي تعكسه شخصيات أخرى؛ إما سياسية كالمنتخبين، الانتهازين، أصحاب النفوذ والسلطة…إلخ. أو دينية، كاسم الفقيه في قصة “الرسالة التي ” وقصة “العطار” وغيرها، أو الحاج كما في قصة الحاج الماحية أو الرجل السلفي الملتحي في قصة” إخلال بالحياء“…وقد يحضر الجهل في المجموعة القصصية على صورة عادات اجتماعية لاواعية كما في قصة “الكولية” وقصة “كسكس بشحمة الأذن” وأيضا في “حكاية قصتي مع النعناع” أو في قصة “ماروكينو“…إلخ.

           إننا إذن أمام ثنائية خطيرة؛ هي الوعي في مقابل التخلف والجهل، وهي ثنائية تؤثث الفضاء الزمكاني للمجموعة القصصية، بدونها لا يمكن أن نفهم رمزية اللغة أو واقعية القصص التي لا تخلو من تناص كما هو ملاحظ في تداخل الأحداث وتكاملها، وبدونها لا يمكن كذلك أن نفهم المشكلات الأربع الكبرى التي تحدثنا عنها من قبل.

           إن ثنائية الوعي/الجهل تشكل مفتاح فهمنا للمكان الذي هو البلدة التي يَكْتُب سكان المنطقة فوق ترابها كل يوم تاريخهم الموشوم بالتخلف وضعف الإرادة؛ المتهافتين وراء المال،السلطة،الدجل،اللهو…، والمتناقضين في خطاباتهم (الكذب/النفاق/الثرثرة/الرشوة…). الباحثون عن وضع ساكن يضمنون فيه قليلا من الرغيف يسدون به رمق بطونهم، دون أن يولوا أي اهتمام لرغيف عقولهم ووعيهم التائه دون وجهة، إنهم أشبه “بالبخوش” كما جاء في القصة الثانية عشر من هذا الكتاب. “بخوش” لا يعرفون وجهتهم لأنهم فضلوا الإصغاء للجهل عوض استعمال عقولهم. ولكن ما الحل؟ فالجهل يضرب بجذوره في الماضي، لهذا لا يكاد الحاضر يختلف عن الأصل، مادامت أخلاق الماضي تعشش في المكان/البلدة، وتضع أفراخها التي أصبحت تعكس العقلية نفسها والتجربة نفسها دون تردد، فتقتل في الإنساني الواعي أمل البحث عن مستقبل أفضل، تموت الفكرة والأمل فيموت معها الإنسان، حيث يستحوذ عليه القلق والتشاؤم … ومن بوسعه أن يواجه الجهل؟ لا أحد. فالجهل يستمد قوّته من سلط عدة: دينية، تاريخية، سياسية، ثقافية…

           يأخذ الزمن “الماضي /الحاضر/المستقبل“، في السرد الحكائي للمجموعة القصصية “وسطى الأباخس” مكانة متميزة، لكن رغم ذلك، يجد القارئ نفسه، وهو يطالع هذه المجموعة، أمام زمن واحد ! لأنه لا شيء تغير؛ نفس الوجوه، العادات، القيم، ونفس المكان… فكل شيء رديء، حتى الأحلام التي نرغب في تحقيقها مستقبلا، هي كذلك رديئة، يقول الكاتب في الاستهلال الذي يضعه كالمعتاد في مقدمة بعض القصص، يقول:” الأحلام حين تتحقق تموت …والأحلام حين لا تتحقق تعيش مدة أطول…”، وأثناء قراءتنا للقصص نعثر على هذا النوع من الأحلام عند الكثير من الشخصيات، التي تَتَكَلّمُ الكاتب حينًا أو تتكلم شخوص المجتمع حينًا أخر.

           إن رداءة الوضع تجعل بعض المستائين المغضوب عليهم، يطفئون غضبهم في أحلامهم وفي حواراتهم الداخلية كما في “حكاية قصتي مع النعناع” أو قصة “الصوت” أو قصة “رداءة الكائن” أو قصة ” الرسالة التي أو في قصة “سيرة النار”…إلخ. لا شيء يمكن أن يتغير فكل الناس باعوا أنفسهم؛ إما للمرشد (الفقيه) أو للسياسي (صاحب الشكارة) أو لعادات وخرافات الماضي.

           إننا إذن أمام مجموعة قصصية غنية بالدلالات والإيحاءات والإيقاعات، وحبلى بالرمزيات والرسائل، مما يعني أن الكاتب ينخرط بشكل قوي في تفجير الأفكار التي تريد أن تقولها القصص؛ وهنا يحاول  أن يترك لنا رسالة مفادها أن الآخرين هم الجحيم بتعبير الفيلسوف الفرنسي جون بول سارتر، فالآخرون هم سبب المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية  للبلد ولا مجال للاختفاء وراء الأسوار، ومن هنا لكم “وسطى الأباخس” أيها الانتهازيون (كما في هذه القصة نفسها)  يا صناع القرارات الفاشلة لسكان بلدة بني الأحمق كما في قصة “رداءة الكائن“، ويا عشاق الرتابة كما تدور أحداث قصة “حكاية قصتي مع النعناع“، ولكم وسطى الأباخس، أيها المنغمسون في الفساد السياسي: التزوير، الرشوة، التواكل…، كما جاء في القصص التالية، رغم اختلاف الأحداث والرمزيات: “بوزكري”،”نطفية المخزن”، “النخيل والبيوض”، جحش متسيس”،”الضامة بالبخوش”،” الصوت”،”يوم إحراق الأسماء المزيفة”،”جورـ اـ نوي”،و قصة “الدفراء“… لك وسطى الأباخس أيتها الثقافة الرديئة، التي يصنع موتها أهل الوعظ والإرشاد كما في قصة “الرسالة التي“، أو التي تنم عنها أفكار أهل البلدة كما في قصة “إخلال بالحياء“، أو في سلوكهم كما في قصة “ماروكينو“، أو تعكسها أساطير العجزة والشيوخ كما في قصة “بيت الشيطان” أو قصة “الكوليا” أو قصة “الكسكس بشحمة الأذن“…

            من هنا نفهم قوة العنوان وجاذبيته؛ فهو يطرح أسئلة عريضة لأنه يستفز الذاكرة من جهة، ويسخر من الواقع من جهة ثانية، لكنه رغم ذلك يخلق الابتسامة كظاهرة شعورية، لا تقبل التفكير أو التأمل بل تعاش فقط كتجربة فنية، يسعى إليها الكائن البشري، بحثا عن المتعة والجمال وهروبا من الضجر  والقلق الذي يخلفه الواقع وتناقضاته؛ فالابتسامة إذن هي روح الجمال الفني الذي تتطلبه بنية السرد الحكائي في القصة القصيرة. إنه لونها المميز مادامت تشكل جنسا من الأجناس الأدبية، إذ هي ليست نوعا من الكتابة التاريخية أو الفكرية أو الفلسفية…إنها القصة القصيرة المبنية على انفجار الشيء المكشوف كما قال الكاتب على لسان عبدالله العروي. لكن كيف تحدث الابتسامة/الجمال وكل قصص وسطى الأباخس تقريبا تعبر عن قلق الإنسان المثقف من ماضيه وحاضره ومستقبله ؟ كيف يمكن أن يحدث الجمال ورمزية الألم حاضرة بامتياز في المجموعة القصصية ( النار في قصة سيرة النارـ الحرق في قصة يوم إحراق الأسماء المزيفة ــ الموتى والعظام في قصة رداءة الكائن ــ الكوابيس في قصة كوابيس ملونة…)؟ هل يمكن أن تقترن الابتسامة بالقلق، الحزن بالفرح، القبح بالجمال؟

           انطلاقا من هذه المفارقات، يبدو وكأن القاص لم يحترم شروط الإبداع الأدبي، لكنك و بمجرد أن تقرأ “وسطى الأباخس” تكتشف أن هذا الأمر غير صحيح، لأنك حين تقرأ قصة تحس بالجمال، بالابتسامة وهي ترسم نفسها على وجهك وملامحك، فتنتقل إلى القصة الثانية والثالثة والرابعة…وهكذا حتى النهاية. أليس هذا جمالا؟ بل إنه الجمال بنفسه؛ لأن الكاتب استطاع فعلا أن يحول رداءة الواقع المعيش، في عمله الإبداعي الأدبي، إلى جمال، كما يفعل الفنان التشكيلي عندما يحول منظرا قبيحا في الواقع إلى جميل في العمل الفني، أو كما يفعل الموسيقار عندما يجعل من صوت الطبيعة الغاضب والمضطرب أحيانا موسيقى تطرب السامعين، أو السينمائي الذي يجعل من الحرب التي ترمز في الواقع إلى العنف والدمار، موضوعا للفرجة والتشويق في أفلامه… لقد استطاع عبدالجليل لعميري فعلا، بقوة ملكته الإبداعية أن يفعل الشيء نفسه؛ فمع قصصه القصيرة تتحول رداءة الكائن، انتهازية السياسيين، تخلف الثقافة، أوساخ أصحاب القرار، حقد المرشدين وتخلفهم، كوابيس ونار المستائين من الوضع … يتحول القلق كله الذي يبعثه فيك الواقع، إلى جمال فني رائع ومحكم بلغة سردية جميلة ومتدفقة، تكاد تَلْبِسُكَ وأنت لا تشعر، فتحس برعشة الجمال وهي تنساب نحوك، فتجري منك مجرى دمك و إحساسك وذوقك…، ويزيد من جمالية هذه المجموعة القصصية حضور مفردات “دارجة” تمثل في الغالب عناوين القصص، وكأن الكاتب أراد من خلال تلك العناوين الدارجة أن يحافظ على تاريخية “المكان“، كما تفعل كل الدول في حفاظها على مسميات الأماكن، احتراما للذاكرة، فإسبانيا مثلا رغم أنها ليست دولة عربية، فقد حافظت على أسماء المدن العربية.

         إن الحفاظ على “المكان” يُغني القصة ويمنحها البعد الواقعي الذي تستحقه، فالمكان الذي نسج خيوط القصة لا ينبغي أن يضيع، بل على الأقل يجب أن تكون هناك علامة تدل عليه، وهو ما فعله القاص عبد الجليل لعميري أثناء استعماله لمفردات دارجة في بعض الأحيان، مرقومة ومشروحة باللغة الفصيحة.

            وإذ نؤكد أهمية هذا الاستعمال الدارج بهذا الشكل ــ ونختلف في الوقت نفسه مع من يقلل من شأنه ويرى أنه ليس ذا قيمة ــ فإننا نعتقد أن الكاتب عندما أغنى معجمه في المجموعة القصصية باللغة الأم التي ترمز إلى المكان، واللغة الفصيحة التي تحيلنا على المشترك، قد جعل البعيد والقريب يتمتع بالعمل الفني ويفهم نشأته المكانية، لأن هناك هامش، وظفه الكاتب/القاص، لشرح المفردات الدارجة بمفردات فصيحة…

             ماذا عساي أن أقول الآن في شأن “وسطى الأباخس” أو في شأن كاتبها؛ فهي مجموعة قصصية متكاملة ومحكمة من حيث اللغة السردية، أو ألمثن الحكائي، أو الخيال الرمزي الذي يضعك أمام الواقع بطريقة مثيرة وجميلة غاية في الجمال…ماذا عساي أن أقول كذلك عن القاص، وأنا كنت أعرفه كأستاذ لي عندما كنت في سن السابعة عشر من عمري؛ أستاذ جاد في العمل ملتزم بالوقت، محب للفن والإبداع والأدب والفكر…وأعرفه الآن كزميل وصديق في العمل، الالتزام هو الالتزام، وحبه للفن والإبداع والأب والفكر يزيد يوما بعد يوم… وما كان هذا الكتاب الذي أصدر في بداية هذه السنة (2017)، إلا عنوانا على التزامه بحب الكتابة والأدب، وهو التزام متواصل لأن الكاتب عبد الجليل لعميري، سيتحفنا في القريب، على ما أظن، بكتب أخرى، مادام  لم ينشر كل مجموعاته القصصية، التي لازالت مركونة في بيته تنتظر القارئ المحتمل، على حد التعبير الذي ورد في القصة الرابعة من هذا الكتاب. فلك مني يا صاحب هذه المجموعة القصصية، كل الحب والاحترام والتوفيق، ولكم مني أيها المتخاذلون، يا أعداء الفكر والعلم والإبداء…وسطى الأباخس.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *