*إبراهيم العريس
عام 1994، قبل عقد تقريباً من حصولها على جائزة نوبل للآداب وقبل نحو عقدين من رحيلها عام 2013، كانت دوريس ليسنغ، الروائية البريطانية الكبيرة تمضي سنوات شيخوختها الهادئة في حي بعيد عن مركز المدينة شمالي لندن حيث تقيم في بيت صغير منور يدخله الهواء، يقوم على رأس تلة صغيرة. أثاث البيت بسيط ويتوزع قريباً من الجدران البيضاء التي تلتقي بالأرضية الخشبية الواضحة للبيت. إنه بيت كما يحلو لغاستون باشلار، صاحب كتاب «جماليات المكان» أن يتخيل المكان الأليف والذي يبعث على أحلام يقظة هانئة وحميمة، وحيث لا بد وأن يكون الهر مستلقياً هانئاً في دفء جلد الصوف، هنالك في الزاوية. وفي الحقيقة لم يكن ثمة في العيش اليومي لتلك السيدة اللطيفة ما ينمّ عن الحياة الصاخبة والمتنقلة التي عاشتها، ولا عن النضال السياسي اليساري العنيف الذي عاشته في صباها. ولكن حتى ولا عن أن واحدة من أشهر أعمالها الروائية وتقع في خمسة مجلدات تحمل عنوانا ذا دلالة هو «أولاد العنف». مهما يكن في ذلك العام بالضبط أصدرت ليسنغ الجزء الأول من «سيرتي الذاتية» الذي سيكتمل بعد ثلاث سنوات في جزأين حمل الأول عنوان «تحت جلدي» والثاني «المشي في الظل». والحقيقة أن الذين كانوا يعرفون أدب ليسنغ لم يجدوا ما هو جديد ومفاجيء في أي من هذين الجزأين. فالسيدة كان سبق لها أن روت كل فصول سيرتها في معظم كتبها السابقة بما فيها تلك التي أتت منتمية إلى الخيال العلمي. فدوريس ليسنغ إنما نهلت طوال كتاباتها، من حياتها ولكن دائماً في شكل موارب، ترك مجالا للتخمين. وذلك على الأقل منذ خماسية «أولاد العنف» حيث يحمل الجزء الأول في عنوانه اسم بطلة «الرواية» مارتا كويست.
> منذ صدور الخماسية بدءاً من عام 1949، خمّن القرّاء أن مارتا هذه ليست سوى القناع الذي تختفي وراءه دوريس ليسنغ نفسها. لكن هذه لم تقل ذلك صراحة أبداً. ومن هنا كان لافتاً أنها في الجزء الأول من «سيرتي الذاتية» أقامت نوعاً من المقارنة الموازية بين حياة مارتا كما وُصفت في الرواية وحياتها هي الخاصة. وبالتالي، لم يعد أي شك ممكناً. وعلى رغم ذلك، لا بد من التنبه هنا إلى أن أدب دوريس ليسنغ بدا على الدوام، لا سيما في الجانب الروائي منه كثيراً ومتنوعاً. فهناك الرواية التجريبية، وهناك الخرافية العلمية. هناك الروايات الطويلة والقصص القصيرة. لكن هناك أيضاً وخاصة الروايات السيكولوجية الحميمة والتي تكاد تكون كتابات بالغة الذاتية… ومنها مثلاً «يوميات جارة طيبة» التي نشرتها تحت اسم مستعار، فكان أن رفضها ناشرها المعتاد. أما عن سبب ذلك الاسم المستعار، فإن ليسنغ تقول أن بطلة الرواية كانت ما تزال على قيد الحياة. وهي إحدى صديقاتها، لذا أرادت أن تخفي اسمها عن الكتاب الذي لم يقرأ لأنه كتاب لمجهول. وذلك بعد أن تلفن لها الناشر ليسألها إن كانت تعرف من هو صاحب الكتاب. فالجمهور والناشرون يريدون اسماً مشهوراً. يريدون شخصية كاتب واسمه ليضعونه على الغلاف. وإلا سيبقى الكتاب ودور النشر مهملين. ومهما يكن من أمر يبقى أن علينا أن نقرأ جزأي السيرة لنجد أن تلك الجارة الطيبة لم تكن في حقيقتها سوى ليسنغ نفسها!
> ولدت ليسنغ، كما تروي لنا في «سيرتي الذاتية»، من أبوين إنكليزيين في مدينة خورمشهر الإيرانية. بعدها سكنت العاصمة الإيرانية طهران سنتين من حياتها حيث كان والدها يعمل موظفا في المصرف الإمبراطوري الفارسي. ففي تلك الفترة كانت إيران مقسمة إلى مناطق نفوذ متعددة، منها التابع للاتحاد السوفياتي ومنها التابع لإنكلترا. ووالدها هو من طلب الذهاب إلى إيران لأنه من محاربي الحرب العالمية الأولى القدماء. وهي تقول لنا إنه لم يستطع العودة إلى حياة طبيعية بعد انتهاء الحرب وعودته إلى عائلته وبيته في انكلترا. إذ إنه قضى وقتاً من حياته في المستعمرات البريطانية. لذا لم يعد يطيق ويحتمل الحياة في لندن، وهو إذ لم يشعر إلا بمرارة كبيرة وبعدم استقرار، قرّر أن يكون مزارعاً في أفريقيا. إذ هو يتحدر من سلالة فلاحية إنكليزية. و»لكن الزراعة والحياة الزراعية في أفريقيا تختلف عن الحياة الزراعية في إنكلترا والمناطق المعتدلة. لقد ذهب إلى روديسيا ليعيش في عالمه المستحيل. حاول أن يكون مزراعاً، لكن آخر اهتماماته كانت أن يكسب مالاً. وهذا ما جعل أمي تعيش حالة بؤس وإحباط دائمة، فهي كانت طموحة وممتلئة برغبات الحياة العادية الطبيعية، وفي روديسيا مات أبي وعادت أمي أدراجها وعدت أنا معها… ثم افترقنا بعد فترة وجيزة هنا في لندن».
> وهنا تعرّج ليسنغ على العالم الإنكليزي لتقول أنه عالم مغلق على ذاته، وليس فيه دم يتجدد، كأنها تنقل بهذا انطباعاً عاماً عن بريطانيا الفاقدة الحيوية منذ عدة عقود من الزمن، وتجد المناسبة ملائمة لتتحدث عن النتاج البريطاني الأدبي: فتجد أن لا حيوية فيه، وسبب ذلك هو عدم وجود هوة بين الأجيال. ذلك مع أنها لا تعتقد بالأصل بوجود هوة بين الأجيال، وهي تعتقد أن الذي يوجد هذه الهوة ليس غير قلة التجربة. ومن ناحيتها هي، فإن ذلك الانسداد على صعيد الحياة العامة اليومية أفادها بأن جعلها تنغلق على نفسها وتستغرق في الكتابة الدائمة، وبصفاء كبير… وربما يكون هذا ما جعل كتابتها منذ البداية نوعاً من سيرة ذاتية متواصلة، هي التي لم تكن تؤمن أولاً بالسيرة الذاتية الواقعية، «فالسيرة الذاتية هي دائماً سيرة متخيلة بالمعنى العميق للكلمة، حتى وإن كانت بعض الأحداث الواقعية تتدخل في صياغة أحداث السيرة المتخيلة وتقودها من بعيد».
> والحقيقة أن هذا يقود ليسنغ إلى الحديث مفصلاً عن كتبها، فتقول مثلاً أن واحداً منها هو سيرة لشخص يواجه الشيخوخة والموت من دون أن يكون لديه من يعرفه أو يتعرف عليه. إنها الشيخوخة الفعلية التي يعيشها سكان أوروبا في المدن الكبرى أو الصغرى أيضاً، حيث تشكل الشيخوخة إحدى السمات المأساوية للحياة الأوروبية القائمة على التفرد والاغتراب والتمزّقق وغياب الهوة بين الأجيال ذات المردود العملي اليومي. وهي تعرف أن هنالك هوة بين الأجيال في بلدان غير أوروبية، إلا أن تلك الهوة لا تترك الشيوخ لعزلتهم الرهيبة. وهنا تصل إلى كتابها القديم «أولاد العنف» فهو بجزء كبير منه مستوحى… من حياتها «في المستعمرات البريطانية في افريقيا وآسيا» وليس من حياتها هي فحسب، بل من حياة والدها بصورة خاصة. إذ هي تعتبره شخصية روائية من الدرجة الأولى. غير أن الصفحات التي تخصصها في سيرتها للحديث عن نضالاتها في صفوف الحزب الشيوعي وخيباتها إزاء تلك النضالات، تبقى أكثر أهمية من تلك التي تكرسها للحديث عن أبيها، هي التي ولّد لديها احتكاكها بشعوب المستعمرات اشمئزازاً من القوى المستعمرة، والبريطانية في مقدّمها.
> مهما يكن، ترى دوريس ليسنغ أن الكتابة، خاصة الروائية منها، هي عبارة عن حال من التنويم المغناطيسي الإرادي. حيث يرحل الكاتب إلى مكان آخر وعالم آخر. «كأن العالم والحياة ليسا هنا بل هنالك». ثم أن «الأفكار لا تصنع كاتباً. وهي أيضاً لا تستطيع أن تصنع رواية». فالرواية، كما ترى هي حالة متقدمة من العمل الصحفي، إذ هي تعطي معلومات دقيقة ووافية عن أجزاء وعن مجتمعات غريبة عن بعضها ومتحاجزة في أحيان كثيرة. فالرواية، «إلى جانب خاصيتها وميزتها الأدبية، يجب أن تحمل كمية كبيرة من العلامات والمعلومات، فلو أخذنا بروست مثلاً، الذي هو أحد اكبر الكتّاب بالنسبة اليّ، فسنجد أنه أعطى صورة واضحة وتفصيلية عن الحياة في عصره وزمنه. لنقرأ أيضاً دوستويفسكي الذي أنار الطريق لفرويد مكتشف علم النفس الاجتماعي».
لكن، كما تعتقد ليسنغ، فإن عديداً من الكتّاب الذين يهربون من الوقائع الاجتماعية لعصرهم، ليسوا إلا أنصاف كتّاب. إنهم «الكتّاب المأزومون الذين يخضعون إلى جلسات تحليل نفساني عيادي لدى مختصّين. هم يتوقفون عن الكتابة ويذهبون إلى المحلل النفساني على اعتبار أن المدى الكتابي عندهم قد انغلق». وهي تروي لنا كيف أنها جرّبت مرة أن تذهب إلى محللة نفسية لتطلع على هذه الظاهرة الرائجة لدى الفنانين، «لكن المحللة لم يسرّها أبداً أن أكون غير مأزومة، إذ إنني خيّبت ظنّها».
________
*الحياة