خاص- ثقافات
*محمد الصالح الضاوي
خلف لنا نصر حامد أبو زيد مكتبة معتبرة في مجال نقد التراث العربي الإسلامي، ومحاولة اكتشاف وعي علمي بديل لقراءته، معتمدا على مناهج حديثة في اللسانيات أساسا، ومركّزا على قضايا جوهرية في رأيه، أهمها: تحديد ماهية النص، وطرق التأويل، ضاربا بذلك كلّ الإرث الأصولي التقليدي، بمختلف مدارسه القديمة والحديثة، باستثناء المعتزلة، الذين تأثر بهم، والمدرسة الصوفية الأكبرية بصفة أقل.
ولا ننكر، أن في أعمال “أبو زيد” الكثير من الاستنتاجات الطريفة والقابلة للتفاعل معها ايجابا، خاصة، على مستويات جزئية… لكن، عندما نجمع صرح النظرية ككلّ، ونذهب إلى النتائج مباشرة، يصيبنا الإحباط، ونجد أنفسنا أمام مقاربة فرديّة مأدلجة، ومليئة بالتناقضات، تلتقي مع مقاربات مماثلة لها ولا تتجاوزها، مثل كتابات مهدي عامل ومروّة والتزيني.
فعلى المستوى الخاص، كان الهمّ الأكبر لنصر حامد أبو زيد في مشروعه هو: تحديد معنى النصّ، وطبيعته وقابليته للتأويل. فهو، دون أن ينفي أو ينزعج من مصدر القرآن الإلهي، يرى أنه نصّ لغويّ مفتوح على التفاعل والجدلية، بينه وبين القارئ، وأنه رغم قداسته، نصّ مٌنتَج ثقافيّ، وأنه قابل للتأويل، غير منغلق ولا محدّد للمعنى. بل إنه نصّ منتج لمعناه مع كل قراءة ثقافية له… وهنا، بعد أن ضرب الكاتب أسس الخطاب الديني المبنيّ على إيديولوجيا وسطية، عمادها: الشافعي والأشعري والغزالي، يبشرنا بوعي علمي بديل لقراءة التراث، واستنباط المعنى المنسجم مع واقعنا وزماننا…
ولقد تعرّض الكاتب إلى ردود كثيرة من قبل أعدائه الإيديولوجيين، واتهموه بالردّة، وحكمت المحكمة بتطليق زوجته منه في سابقة خطيرة وطريفة في القضاء المصري. وظهر للعلن، الصراع السياسي والإيديولوجي المبطن في قالب المعرفة والعلم… بين تيّارين فكريين… وكلّ الذين نقدوا نصر حامد أبو زيد نقدا رصينا، اتهموه بالتوظيف السياسي لأطروحته، فضلا عن التناقضات المنهجية، وفي المقدّمات. (مثال: علي حرب).
فبين العلمي الطموح، والإيديولوجي المحرّك للسواكن والسلوكيات، تراوح المشروع التنويري التقدمي لنصر حامد أبو زيد، ليخلف لنا مجرّد آمالا لم تتحقق… حيث اكتفى بنقض الإيديولوجيا الوسطية الأصولية كما يسميها، وتعويضها بقراءة ماركسية تتأسس على المعطى الثقافي والبنى الإنتاجية، وأسماها: الوعي العلمي لنقد التراث وقراءته، أي تأويله…
لم يصل المشروع إلى النضج، ولم تؤثّر ثمرته في الشعب، ولم يلق إلا استهجانا من الأصوليين واستحسانا من التقدّميين، في مشهد استعراضي فرجوي، استفاد منه الإعلام… ولم يخلف تلاميذ ومريدين يسيرون على نهجه… بل خفت نوره بعد موت صاحبه في 2010.
وحسب رأينا، فإن أسباب تهافت المشروع، تشترك، مع عدّة مشاريع تنويرية حداثية في عالمنا العربي، وتتمثل في:
أولا: إشكالية الوحي، واعتباره نصّا لغويا منتجا للمعنى، بالتأويل. والحال أنه كلام قبل أن يتنصص، وأنه كلام ذو محمول معرفي وعرفاني ونوراني، ذاتيّ، ينفتح على قراءات متعدّدة بتعدّد مستويات الوجود. وأن النصّية، ما هي إلا إحدى مستويات الوجود الكلامي، ولها تناسب مع العالم… فالكتاب: رقّ منشور… وكتاب مرقوم… والتأويل، لا يعدو إلا أن يكون مقاربة كشفية لذاتية المعنى الملفوظ، والذي أصبح مرقوما… وقد لامس نصر حامد أبو زيد هذا الطرح العرفاني عند بسطه لرؤية ابن العربي للتأويل، لكنه لم يتمكن من مجاراته… واستثمار اللحظة التاريخية… تماما كابن رشد الحفيد، الفيلسوف وزعيم أهل النظر، الذي التقى بالشيخ الأكبر، شيخ أهل الكشف، واعترف له بمنهجه، لكنه لم يستطع استثماره…
ثانيا: طغيان العامل الإيديولوجي والسياسي على الأعمال التنويرية والمقاربات الحداثية، وسقوطها في فخّ الصراعات والفتن، وانصباغها بلونها ورائحتها… ممّا يجعل المشروع ككلّ، يتقلّص إلى تحكيم الماركسية على القرآن، وتعويض الأصولية الوسطية بالإيديولوجيا الجدلية، وهو أمر، مرفوض من الوعي الجمعي العربي، ولا يمكن له إلا أن ينتج مزالق خطيرة من الفتن والمعارك الهامشية.
ثالثا: فشل مشاريع التنوير في قراءة التراث ونقده في إعادة تأسيس مقاربة وجودية تتأسس عليها نظرة عقدية تستلهم الروح النصية واللحظة الزمنية المعاشة…فكل التراث محكوم بصيغة عقدية تحدّدت واستقرّت في القرن الثالث للهجرة، وهي بناءٌ، من تصوّرات خيالية وغيبية عن الوجود ومستوياته ومفرداته: الله، العالم، الإنسان… فلا يمكن تعديل مسار التراث زمانيا، إلا بإعادة رسكلة مفاهيم وتصورات ارتبطت في أذهاننا بالغيب، بتغيير ترميزها التأويلي، وتغيير مستوى تأويلها، حتى تتناغم وتتساوق مع عصرنا.
وللحديث بقية…
____________
* كاتب ومفكر تونسي مقيم بالجزائر
dhaoui66@gmail.com