عَرَبوُود الحلم السينمائي العربي المستحيل

*واسيني الأعرج

يبدو سؤال السينما العربية محيّرا أو غير مهم، في زمننا العربي القاسي، لأسباب كثيرة يمكن اختزالها في علامات صغيرة، أهمّها أن السينما تضع أمام أعيننا حركة وفوضى واختلال المجتمع الافتراضي سينميا، الذي ليس افتراضيا إلى كل هذا الحد.
فكم هو شبيه بالواقع المعيش واليومي؟ مقبول من المخرج والمنتج عربيا، أن ينتقد الحالات العامة، ولكن إلى حدود ما، مسطرة سلفا، ممكن جدا أن يتحدث عن الظلم، ممثلا في شخصية جشعة مثلا، بلا أخلاق ولا دين.
ممكن أيضا أن يتحدث عن الجريمة وتهريب المخدرات وربط ذلك بنشاط أفراد اخترقوا القوانين. لكن في اللحظة التي يربط فيها الظلم الاجتماعي بالمتسبب الرئيسي فيه اجتماعيا، أو ربط تهريب المخدرات وفساد المجتمع، بالمنظومة العليا التي تديره، وتورط فيه حتى جهاز الدولة، تتغير المعاملة والديمقراطية المفترضة. ويصبح المخرج المليء بالحماس الكبير، وحب الوطن، في القائمة السوداء إنسانا مزعجا لراحة الوطن، هذا إذا لم يُدَن بمعادة وطنه أو التعامل معه بمنطق العمالة.
هذه المعاداة السينمية رَبّت في الناس رغبة كبيرة في عدم رؤية الحقيقة كما هي ومعرفتها ومحاولة تخطيها. هذا الخطاب المعادي للسينما والسينمي الكاشف عن المستور أدى إلى تدمير كل إمكانية لنشوء سينما عربية حقيقية قادرة على مواكبة التحولات الاجتماعية والثقافية والإنسانية.
ماذا لو سُخر جزء يسير جدا من المال العربي الكبير الذي يهدر في الحروب المدمرة، وفي ما لا يفيد مطلقا للخروج من دائرة التخلف، في تأسيس سينما عربية جديرة؟ فقد أهملت كليا الاستراتجيات الكبيرة التي تمهد للنقلات الكبيرة نحو الحداثة واللحاق بالركب العالمي.
حتى مكاسب الخمسينيات السينمية، والستينيات والسبعينيات حينما كانت فكرة إنشاء صناعة سينمية عربية أمرا ضروريا، لمواجهة خطاب الآخر الاستعماري العدائي الذي أنشأ صورة مبتسرة وبائسة للعربي المتوحش، والمتخلف، والمجرم، هذه الفكرة ماتت وتهاوت ولم تعد فكرة صناعة الصورة البديلة ضرورة عربية، ونستهلك ذوقيا بالطريقة التي تُفرض علينا لدرجة أننا نضحك على أنفسنا أو نكره انتماءاتنا.
حتى قاعات السينما التي خلفتها الحقب الاستعمارية، الإنجليزية والفرنسية لراحة مواطنيها، وشكلت جزءا مهما من شبكة عمران المدينة ونشاطها الثقافي، انهارت ولم تعد موجودة. لهذا يفرض السؤال اليائس من وجود سينما عربية، نفسه علينا.
ماذا فعل العرب مجتمعين سينميا بتاريخهم الذي يمتد من فترة ما قبل الإسلام حتى اليوم؟ ولِمَ لَمْ تُشكل السينما هاجسا استراتيجيا لهم، وهم جيران لأكبر منتج سينمي عربي: الهند؟ خلقوا رديفا معاندا لهوليوود، بوليوود التي تشكل اليوم رهانا سينميا هنديا عظيما لترسيخ النموذج الثقافي الهندي وتقبل العرقيات والإثنيات بعضها بعضا.
نستفيد كثيرا من العمال الهنود في كل شيء ننجزه، من الحراسة إلى سواقة السيارات والشاحنات، إلى الهندسة، العمران، وغيرها، لِمَ لا نستفيد من صناعتها السينمية الضخمة، لبناء مشروع عربي سينمي عظيم، يسير وفق هذا الاتجاه. لِمَ لا تكون لنا عربوود؟ قد يبدو الأمر مضحكا لكنه ليس مستحيلا. لكن هذا يحتاج طبعا إلى مساحة عالية من الديمقراطية وأناس مقتنعين بقوة المشروع السينمي العربي تجاريا وثقافيا أيضا. لنا أن نتصور قليلا، الهند بلا فن ولا سينما؟ كم أنقذت السينما من الهلاك والانتحار والتقاتل ملايين البشر.
للأسف، لا تزال هذه الأصوات بلا صدى عربيا. وكأن العرب غير معنيين بهذا التاريخ مطلقا، وكأنهم أمة ولدت من فراغ الوهم وليس لها أي تاريخ؟ أو ليسوا محصلة لتوترات ثقافية وحضارية في المفترقات الإنسانية الأكثر صعوبة؟ عندما أقول العرب، أتحدث بالطبع عن البعد الثقافي والحضاري، أكثر منه العرقي واللغوي، وإلّا سنقوم ببتر مكون مهم من هذه الأرض. باستثناء ما قام به الآخرون، ووفق رؤى مسبقة، لم نفعل شيئا مهما يخصنا ثقافيا. سيدنا موسى كبر وتعذب في الأرض المصرية والفرعونية. ما هي رؤية العرب لهذا التاريخ القديم السابق للإسلام؟ نستهلك فيلم الوصايا العشر الذي أنجز وفق رؤية أيديولوجية ودينية محددة، مع استثمار كبير لهوليوود، لكن ما هي رؤيتنا مثلا في هذا الموضوع، إذا توفرت لنا رؤية؟ التاريخ الذي نقرأه موصّفا برؤية الآخر إيديولوجيا ونعيد إنتاجه سينميا، هو قراءة أيضا نورثها لأبنائنا وأحفادنا. ماذا فعلت السينما اللبنانية مثلا بالحقبة الفينيقية التي تدين لهذه الأرض بالكثير. في لبنانيي اليوم شيء من فينيقيي الأمس الذين كانوا تجارا متنقلين، قليلي الحروب، لا تهمهم إلا المرافئ التي ينقلون من خلالها سلعهم. ماذا فعل المغاربيون سينميا بتاريخهم النوميدي القديم، صراعات ماسينيسا وسيفاكس ضد روما قبل أن يفترقا ويتقاتلا؟ ويوغرطة الذي قاتل بقوة لبناء مجتمع جديد خارج منظومة القوة الرومانية؟ ماذا فعلوا بتاريخهم الأندلسي المشرق؟ الشخصيات العربية الإنسانية التي ولّدها التاريخ العربي الإسلامي أين حظها سينميا؟ كأننا لا نورث لأبنائنا إلا التصحر ونفاجأ كيف ذهب الكثير منهم نحو الإرهاب الذي لا يعني في النهاية إلا العدمية؟ تاريخ هذه الوقائع أو الشخصيات لم يلق حظا في أن تُفرد له أفلام تصل الماضي بالحاضر، ليؤمن الناس بأن تاريخهم كبير، وفيه الكثير من النور والبهاء وليس سوادا كليا. وليس أقل من تواريخ  العالم مثلما فعل الأمريكيون، والصينيون، والإنكليز، والفرنسيون، والهنود، وغيرهم، باستثناء ما قام به الليبيون مع عمر المختار، للمرحوم العقاد. فشل المغاربيون المؤهلون سينميا في وقت سابق بحكم القرابة مع أوروبا، في رسم صورة حية وإنسانية من خلال الأمير عبد القادر، عبد الكريم الخطابي، بورقيبة، ورواد النضال والحداثة والليبيرية العربية المتفتحة في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات وغيرها من الحقب. وكأننا لسنا أهلا لأبطالنا. أين هو اليمن السعيد؟ أين هو مجتمع التسامح الديني الذي يمنحنا اليوم صورة بائسة منغلقة على مجتمع حوثي يكاد يكون حجريا، تحكمه القبيلية والتسلط والتقتيل الذي لن يؤدي إلّا إلى سلسلة من عدميات لا تنتهي أبدا. أين هي المماليك القديمة التي بنت المدن والسدود العظيمة؟ أين الوعي السينمي الذي يستحضرها في زمن يتجه حثيثا نحو النهايات المفجعة؟ كيف نحب أوطاننا ونحن لا نعرفها؟ وما نعرفه قليل جدا لأن التاريخ لا يزال نائما في العلب الفولاذية المغلقة. أليست السينما هي أكبر حالة سحرية نسترجع من خلالها هذا التاريخ المقتول وهذه الآمال الدفينة؟ فهل من عربوود تنقذ سينما عربية يمكن أن تصبح عالمية في وقت قصير؟

_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *