*خيري منصور
حاولت رسم هذا البورتريه لأول مرة بقلم رصاص وأنا أجلس في زاوية مقهى في قلب القاهرة اسمه بعرة، وقد أطلق هذا الاسم الفنان الراحل رشدي أباظة، كما اطلق تزارا اسم دادا على تيار فني تجريبي في فرنسا أعقب السيريالية، وكلا الاسمين بلا أي دلالة.
في ذلك المقهى يجلس عشرات الكومبارس من الرجال والنساء، ومنهم من هو دوبلير فقط، أي شبيه ممثل مشهور ينوب عنه في المشاهد الخطرة، كالسقوط من سلّم، أو التعرض للضرب أو الغرق، وبالفعل كان هناك من يشبه شكري سرحان إلى حد كبير ومن تشبه سعاد حسني، وتقمّص هؤلاء الدوبليرات أو الأشباه شخصيات النجوم حتى خارج الاستوديوهات، وانتهى الأمر ببعضهم إلى حالة من انفصام الشخصية أو الشيزوفرينيا، فالكومبارس قد يؤدي لدقيقة أو أقل دور باشا تؤدى له التحية وتفتح له الأبواب، ثم يخلع الثوب المستعار والمؤقت ويتقاضى أجرا مقابل ذلك، وهو على الأغلب أجر قليل، وفي حالات التقمص التي تنتهي إلى انفصام يخسر الكومبارس ذاته ولا يصبح الآخر الذي يحاكيه أو يحاول الحلول فيه.
ما حاولت رسمه قبل عدة أعوام بقلم الرصاص أعدت رسمه بالفحم، فلم أفلح، لأن للفحم ذاكرة النار، وما أن تكاثر الدوبليرات وتسللوا إلى الحياة السياسية والثقافية حتى أصبحت محاولة الرسم الثالثة بالحبر الأبيض، لأن المسكوت عنه في مثل هذا المشهد أضعاف المسموح بالتعبير عنه.
وفي السياسة والثقافة لا يكون الكومبارس أو الدوبلير بريئا أو مجرد باحث عن فرصة عمل، ورأس ماله الوحيد هو الشبه بينه وبين ممثل مشهور. فالدوبلير الثقافي يسعى إلى أن يحل مكان الأصل، وأدواته للوصول ليست الموهبة أو بذل الجهد للتحصيل المعرفي، إنها تتلخص في قابليته واستعداده الدائم للاستئجار وعرض الخدمات على الرقيب والمؤسسة، وقد يلجأ إلى محاكاة الصورة النمطية للفنان، أو المثقف، فيطيل شعره ولحيته ويتعمد الإقلاع عن الاستحمام، ظنا منه أن ما كتبه رامبو وفيرلين عن الشعر، كان بفضل مستوطنات القمل في رأس كل منهما، ولا بأس أن يغطي عينيه بنظارة غير طبية ولا يحتاج إليها، وهي على الاغلب مجرد زجاج كزجاج النوافذ.
وقد يستخدم مفردات نابية وجارحة للذوق العام لاعتقاده بأنه بذلك يعلن العصيان على النمطية، ويحق له ما لا يحق لسواه. وقد يحفظ عناوين بعض الكتب عن ظهر قدم وليس عن ظهر قلم أو قلب، وبضعة سطور من مقدمات الكتب أو كلمة الناشر على الغلاف، وهذه مؤونة تكفي لثلاث دقائق على الأقل، وهو ما تحتاجه الفضائيات التي غالبا ما تتذرع بضيق الوقت والفواصل المتعاقبة.
إن رسم بورتريه لشبه مثقف في زمن الإنترنت والإنتركم والإنترناشونال والإنترلوك، لا يمكن إنجازه بالفحم أو قلم الرصاص، لهذا لا بد من استخدام الحبر الأبيض على الأقل لما بين السطور، لأن شبه المثقف هو النقيض الحقيقي للمثقف وليس الأميّ، تماما كما أن شبه الديمقراطية هي نقيض الديمقراطية وليس الديكتاتورية، لأن الأشباه تصادر على ولادة الأصول وتجد من يقدمها بديلا شكلانيا، وفي عالمنا العربي تزدحم ثلاجات النظم والمؤسسات بالأشباه المجمدة، تماما كالدجاج أو اللحوم، وما أن تأزف الحاجة إليها، حتى يتم تسخينها في دقائق بالمايكرويف، وتصبح وجبة جاهزة، لكنها ليست وجبة غذاء، بل وجبة ثقافية زائفة أو إعلاما هو في حقيقته إعلان.
ويذكرنا شبه المثقف بنساء أفرغهن الاستلاب من آدميتهن، فأصبحن العدو الراديكالي لنساء يكدحن لتحرير أنفسهن من العبودية المزدوجة، ومن بيوت الدمى، كما وصفها المسرحي أبسن في إحدى مسرحياته الشهيرة، ولأن الشبيه طيّع ورخو وقابل لإعادة تشكيله حسب الطلب، بحيث يكون مرة غزالا ومرة قردا أو ثورا، فهو سلعة رائجة.
وغالبا ما يزداد الطلب عليه حين تصاب النظم والمؤسسات بالاختناق من المثقفين بالمعنى العضوي والتاريخي، لكنه رغم اصطناع سمت المثقف يتحول إلى كاريكاتير، وأحيانا يصبح بليادشو، يثير السخرية والضحك وهو يستهدف البكاء أو يستجديه من عيون سامعيه ومشاهديه، خصوصا أن معجم مفرداته لا يزيد عن عدد أعواد الثقاب في علبة كبريت، فهو لا يغير في سياق كلامه غير اسم الممدوح أو المهجو، ولو قدمت عينة من كتاباته بعد حذف بضع مفردات لتلامذة المدارس الابتدائية وطلب منهم أن يملأوا الفراغ لفعلوا ذلك بكل يسر!
إن المحنة الكبرى في ثقافتنا، بل في مجمل حياتنا هي اللجوء إلى الدوبليرات والأشباه ليحلوا مكان الأصول، ويسدوا فراغا على طريقة ذر الرماد في العيون. وحين كانت محاولة رسم بورتريه لأحد هؤلاء بالقلم الرصاص أو الفحم ممكنة لم يعد عددهم قد تضاعف إلى هذا الحد الذي يهدد العملة الجيدة بالطرد، فهناك الآن مزارع لاستنباتهم وتفريخهم كالسمك في ماء آسن، فأين هو النقد الجدير بهذه الصفة كي يفض الاشتباك بين الماء والسراب وبين الورد البلاستيكي وورد الربيع، وبين أحصنة السيرك والخيول البرية؟ خصوصا بعد أن عمّ الظلام وأصبح البقر كله أسود كما يقول هيغل.
_______
*القدس العربي