*حسن الساحلي
ما زالت الحرب موضوعاً متواتراً للأعمال الفنية المنتجة في بيروت، لا لراهنية الحديث عنها كما يُظن، بل لأنها ما زالت موضوعاً مثيراً لكثير من الفنانين، خصوصاً المغتربين منهم، ولعدد من المؤسسات الفنية العابرة للحدود، التي لم تفقد قابليتها للحروب، بعدما توسعت جبهات القتال في البلدان المجوارة.
هذه الحالة مستمرة منذ عقود، وتبقينا رهينة لمفهوم الحرب اللبنانية المجرد، الذي تكرس خلال التسعينات، وتزداد ضبابيته يوماً بعد يوم، وقد أصبح مستملكاً من قبل فنانين لبنانيين ومنتجين للثقافة، صاروا يبدون أحياناً كمجموعة مقاتلين سابقين، هم معنيون بالحرب، أكثر من الذين شاركوا فيها أنفسهم.
لم أجد بسهولة من يشاهد معي فيلماً تحت عنوان “مشهد عند الظهيرة”، عرض ضمن الدورة الثالثة عشر لبينالي الشارقة، مع أنه لم يكن عن الحرب بشكل مباشر، بل تمحورت قصته حول مخرج يريد صناعة فيلم عن الحرب. ربما لم أكن متحمساً لإقناع أحد بمشاهدة فيلم آخر عن الحرب سيكون عن مخرج نعرف مسبقاً أنه سيحاكي شخصية المخرج الحقيقية. فهذه تجربة، في حال فشلها، لا تتمناها لعدوك. ضع في البال أيضاً تعاسة أوضاعنا الفنية، العاجزة عن إنتاج سينما حقيقية، فما بالنا بمخرج يرى في إبداعاته ما يستحق التوثيق؟
لكن الفيلم لم يخيّب أملي كثيراً، فقد تمحورت بدايته حول أزمة إبداعية يواجهها المخرج خلال تصوير فيلمه الذي بدا له غير واقعي بما فيه الكفاية، ولا تبدو مشاهده كأنها حصلت فعلياً خلال الحرب. لم أكن قد شاهدتُ شيئاً لصانع العمل، روي سماحة، الذي قدم في السابق أفلاماً قصيرة ومشاريع فوتوغرافية، ومن الجيد أن الفيلم لم يكن سيئاً من ناحية اللغة السينمائية والتمثيل، وهذان العنصران كانا أكثر من كافيين بالنسبة اليّ، من أجل إكمال أي عمل أشاهده.
المشكلة الرئيسية في الفيلم، بدأت بالظهور مع الوقت، وهي مشكلة أحسب أنها غير محصورة فيه فقط، بل بأكثرية ما يُصنع في بيروت من أفلام فنية خلال السنوات الماضية. وأقول “الأفلام الفنية” في محاولة لحصر الكلام في أعمال المهرجانات والفعاليات الفنية، وهي على كل حال تشكل النسبة الأكبر من الإنتاج اللبناني، بغض النظر عن مدى وصولها إلى فئات واسعة من الجمهور. هذه الصيغة الإنتاجية ساهمت بشكل كبير في تعزيز موقع سينما الحرب اللبنانية واستمراريتها على كل حال.
عرض الفيلم في سينما متروبوليس، والجمهور كان من رواد “بينالي الشارقة” الذي تنظمه جمعية “أشكال ألوان”، من فنانين ومخرجين ومعنيين بهذا المجال المغلق على نفسه. وهؤلاء هم الجمهور الفعلي لما يمكن أن نطلق عليه سينما لبنانية، وقد اجتمعوا في المكان شبه الوحيد الذي يمكن أن يعرض أعمالاً منها. مشكلة الفيلم كانت في السرد الذي يريد أخذنا بالقوة إلى قبرص، وتحديداً إلى مكان تعيش فيه مجموعة من مصاصي الدماء.
السبب وراء وصول القصة إلى هذا المكان، هو كمّ النبش الذي تمارسه الشخصيتان الرئيسيتان في الفيلم، وهما المخرج، والفتاة التي يرتبط معها بعلاقة. الأول من خلال فيلمه وقصة أبيه الذي اختفى لأسبوع خلال إحدى المعارك، والثانية من خلال الأحاديث التي تجريها معه أو مع صديقتها، مثل المشهد الذي تتحدث فيه عن قتلى الحروب والمفقودين الذين تنبش قبورهم ويعاد دفنهم عند العثور عليهم. يذهب المخرج إلى قبرص من أجل إعادة التفكير في فيلمه، ومعاينة مدينة نيقوسيا القبرصية التي يمر فيها خط تماس يفصلها كما بيروت، بين شرقية وغربية. ويعثر على ما يشير إلى أن الأسبوع الذي اختفى خلاله والده، كان في قبرص وليس في بيروت.
خلال إحدى جولات التصوير يلتقي برجل غريب ملتحٍ، يقنعه بالذهاب معه من أجل تصوير جثة رجل ميّت “وفقاً للعادات والتقاليد المتبعة”. لم يستطع المخرج تصوير الميّت، لأن الأخير يستيقظ من موته كل حين، والمكان الذي يجد نفسه فيه، هو منزل تعيش فيه مجموعة من مصاصي الدماء. وبدلاً من تصوير الميّت، يصور المخرج المجموعة التي يصبح واحداً منها.
كان يفترض بالفيلم أن يكون مرعباً، وقد فشل طبعاً. اكتفى بسياقه الخطابي والرمزي، ضمن ما ينتج لبنانياً عن الحرب من أفلام، تحاول جاهدة خلق معنى لما تقوم به. الشخصية الرئيسية لا تحاكي شخصية مخرج الفيلم الحقيقية، كما ظننا في البداية، بل كل المخرجين والفنانين الذين يحاولون صناعة أفلام أو أعمال فنية عن الحرب. والفيلم لا ينتهي بحل لمشكلتيه الأساسيتين، أي تصوير فيلم واقعي ومعرفة ما حصل مع الأب، بل بمشهد يظهر المخرج فيه وهو يحاول دفن جثة الرجل الذي كان يفترض به تصويره، والتي ما لبثت تستيقظ كل حين.
بعض الفنانين اللبنانيين الذين صنعوا أعمالاً عن الحرب، كانوا قد دخلوا في متاهة نبش القبور، فأصبحوا مصاصي دماء. المخرج تحول بدوره إلى واحد منهم، إثر نبشه قبوراً مغلقةً أيضاً. يريد الفيلم القول إن الأب هو من دخل المتاهة أولاً وجذب الابن إليها، لكن قوة الإصطناع الموجودة في الفيلم، لا تلبث أن تعيدنا إلى السياق الذي أنتج فيه. ففي أحد المشاهد، ينزل المخرج من غرفته ليجد مصاصي الدماء جالسين حول طاولة الطعام، فيعود أدراجه هارباً من طقوسهم الدموية. يصبح في مكانين: منغمساً في واقعه الدموي ورافضاً له. وفي دفنه للجثة في نهاية الفيلم، محاولة لإنهاء كابوسه، علّ الأموات الذين يعيش معهم، يتركونه في حاله.
السياق الوحيد للفيلم هو مسار الإنتاج السينمائي والفني اللبناني خلال العقدين الأخيرين، أو ربما الإنتاج السينمائي والفني المتحور حول آثار الحروب بشكل عام، والذي يعتبر انشغالاً رئيسياً بين الإنشغالات التي تتمحور حولها الأعمال الفنية المنتجة في لبنان. وهو ليس سياقاً فحسب، بل هو أيضاً مبرر لوجود الفيلم، طالما أن وظيفته الفنية في صناعة سرد متسق أو رعب، بدت فاشلةً إلى حد ما.
لكن، رغم كل شيء، لعل الفيلم نجح في تقديم شيء ذي معنى لجزء من مشاهديه، المرتهنين لنمط الإنتاج نفسه، والذين يدخلون بملء إرادتهم إلى دوامة النبش والطمر تلك. هؤلاء الذين يرون أنفسهم مبدعين وعليهم حشر أنوفهم في أزمات ليست فعلاً أزماتهم، لم يعودوا أصلاً محتاجين لأساليب سرد نمطية، وأفلام رعب حقيقية، طالما أن ذلك كله لم يعد محبذاً في مجال فني يخفف باستمرار من قيمة الحوار والسرد القصصي، ولا يتوقف عن إنتاج أعمال فنية يظهر فيها أشخاص هائمون بحروب متخيلة، صامتون، عاجزون عن الفعل أو عن إيقاف تفكيرهم في أزمات أقل ما يقال عنها أنها مصطنعة.