اللغة.. عين المعرفة

*محمد الأسعد

في سياق أزمةِ كتالونيا الإسبانية الأخيرة، تذكرتُ مقالة قصيرة نشرها أحدُ أبناء هذه الولاية، د.فينسنتي نافارو، أستاذ علم الاجتماع والعلوم السياسية في جامعة جون هوبكنز الأمريكية، يستعيد فيها ذكرى أخذه لأول مرة في حياته إلى مخفر الشرطة في برشلونة في العام 1944، وكان سنه آنذاك لايتجاوز السابعة، بتهمة أنه تشاجر مع شرطي. بدأ الشجار حين سمعه هذا الأخير يتحدث بلغته الأم، الكتالونية، فصرخ في وجهه «..اخرس.. لا تنبح مثل كلب.. تحدث بلغة الإمبراطورية»، ويعني اللغة الإسبانية، اللغة القشتالية كما كانت تعرف في الماضي، فما كان من الصبي إلا أن بصق في وجه الشرطي ولغته.
لم ترد هذه الذكرى على ذهن هذا الأستاذ بمناسبة قبول البرلمان الإسباني لدستور جديد لكتالونيا، أعلن فيه أن هذه الولاية، أو الجمهورية كما ظلت تعلن نفسها بين عصر وآخر طوال القرون الأربعة الماضية، ولاية ثنائية اللغة، مع إعطاء الكتالونية الأولوية، بل جاءت بمناسبة أخرى؛ مناسبة فوز الروائي البيروفي/الإسباني خورخي ماريو بارغاس يوسا بجائزة نوبل للآداب (2010).
كان موقف هذا الروائي من اعتماد اللغة الكتالونية كلغة أولى في هذه الولاية هو أحد زوايا الموقف النقدي الذي واجهه به د.فينسنتي. جاء في نقده أن الحزب المتعصب الذي ينتمي إليه فارغاس ثارت ثائرته، ومعه فارغاس، وطالب بإلغاء ما أقره البرلمان، وشدد على واجب فرض «القشتالية» في كل الولايات الإسبانية، حتى تلك التي لا تتحدث الإسبانية أولاً تحتل هذه فيها المرتبة الأولى، وجاء في المقالة النقدية «أن بارغاس ينكر على الكتالونيين مثل هذا الحق الإنساني في أن يتحدثوا بلغتهم الخاصة بهم، لأنه يعتقد أن بعض الثقافات أرقى من غيرها، ومن هنا ليس من مكانة للكتالونية سوى الدرجة الثانية..»

وأبعد من كل هذا العراك، في هذه الزاوية الصغيرة، أتذكر أن الحداثة الأوروبية التي لازمها وجهها الاستعماري المعتم، لم تترك حتى لهذه اللغة الإسبانية «الإمبراطورية» تلك المكانة التي يتفاخر بها بارغاس يوسا، ويريد قطع رأس لغة كتالونيا من أجلها، مكاناً بين لغاتها منذ أن تولت أمورها اللغات، الألمانية والفرنسية، ثم الانكليزية أخيراً، لغات أصبحت «قلب أوروبا» كما قال الألماني «هيجل» ذات يوم، ونفى اللغتين؛ القشتالية والبرتغالية من مملكة العالم الحديث لأنهما لم تعودا حسب رأيه مناسبتين لحمل الخطابات العلمية والفلسفية.
والمفارقة أن هذه التعليقات جاءت من ناطق باللغة الإسبانية ومن أمريكا اللاتينية أيضا هو أستاذ علم الدلالات الأرجنتيني «والتر مينوليو» صاحب أشهر كتابين في الكشف عن أشد الوجوه عتمة لما سمي «عصر النهضة» الإيطالية، ولما سميت ب«الحداثة الغربية».
يقول هذا الأستاذ، في معرض تناوله لمصائر اللغات، أنه مع انحدار الإمبراطورية الإسبانية في المرحلة الاستعمارية الحديثة خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أصبحت اللغة القشتالية، التي ستصبح الإسبانية بعد تعميمها على ممتلكات الإمبراطورية، لغة من الدرجة الثانية بالنسبة للغات الحداثة الثلاث المذكورة آنفاً. السبب الرئيسي لم يكن الانحدار السياسي والعسكري والاقتصادي، وإن كان لهذه العناصر تأثيرها، بل لأن القشتالية فقدت سلطتها كلغة مولّدة للمعرفة، لم تعد لغة علوم وفلسفات بل لغة تلائم التعبير الأدبي والثقافي في وقت أصبحت فيه المعرفة تشدد على خصائص العقل الرئيسية، في التفكير الفلسفي والنقاش العلمي، وتقمع أو تنفي الخصائص الثانوية، أي خصائص توصيل العواطف والمشاعر. أصبحت الإسبانية، لغة «إمبراطورية» ذلك الشرطي الذي يتصدى لطفل في السابعة من عمره يتحدث لغته الأم، وامبراطورية بارغاس يوسا اللاعب في الوقت الضائع على مجد إمبراطوري غابت شمسه منذ زمن طويل، من لغات العالم الثالث، ولحقتها البرتغالية، مثلما لحقتهما لغات أعرق مثل الصينية والعربية.
* * *
تتغير الأزمان وتتغير مواقع اللغات والأمم، فما كان هامشاً اليوم قد يصبح المركز غداً، وهذا هو ما يلاحظه الفيلسوف المكسيكي/ الأرجنتيني «إنريكي دوسل» حين ربط تلازم بواكير الحداثة الأوروبية مع مرحلتها الاستعمارية في نهاية القرن الخامس عشر، و«الاكتشاف» الأوروبي ل «عالم جديد»، وانتقال أوروبا من وضعيتها الهامشية كمنطقة طرفية بالعلاقة مع الإسلام، إلى موقع مركزي بالعلاقة مع تكوين الإمبراطورية الإسبانية، وطرد العرب، ونجاح التوسع الأوروبي عبر المحيط الأطلسي. في هذا التشكل تصبح الأمريكيتان أول مناطق طرفية هامشية بالنسبة للعالم المعاصر، وجزءاً من أسطورة الحداثة.
واليوم يعتقد عدد من الكتاب الطرفيين، أن عدم مشاركة اللغات التي تم نفيها، ومنها العربية بالطبع، في النقاش الدائر حول الموروثات الاستعمارية، والتنظير لمرحلة ما بعد الاستعمار، يعني حصر هذه القضايا الحساسة تحت مظلة نقاش فكري تهيمن عليه منذ القرن الثامن عشر اللغات الألمانية والفرنسية والانكليزية. ويحضرني هنا مثال الامتعاض والغضب اللذين تعبر عنهما الدوائر الغربية، أو الحظر الذي تفرضه أحياناً، على مشاركة باحثين «عرب» أصيلين وليسوا صناعة الدوائر الغربية، في مناقشات قضايا مثل تلك التي تناولها «إدوارد سعيد» (1935- 2003) في الاستشراق أو الثقافة والإمبريالية، أو «كمال الصليبي» (1929- 2011) في التوراة جاءت من جزيرة العرب، أو أفارقة من أمثال «نغوجي واثينغو» (1938- ) في كتابه تصفية استعمار العقل، و ذوي أصول أفريقية مثل «فرانز فانون» (1925- 1961) صاحب كتاب المعذبون في الأرض.
ما يثير الغضب والامتعاض، بل والمنع، أحيانا وجهان متلازمان، الأول طبيعة التناول الذي يكون عادة متحرراً من إلزامات ومعايير ما تسمى «الحداثة» الغربية، والثاني لغوي، بمعنى أن الكتابة في واحدة من اللغات الثلاث التي اعتبرت «قلب أوروبا» يتيح للكاتب أكبر عدد من القراء لا يتوفر له في لغته الأم. كلا الأمرين مزعج بالنسبة لعقلية ترى أنها هي وتراثها وما تعتقده من تصورات لنفسها وللآخر المركز والمحور، وبقية العالم مجرد أطراف هامشية لا تتوفر على علم ولا معرفة تستحق حتى الالتفات.
مع كل هذا، لا ننكر بالطبع أن ما يحدد قيمة اللغة سواء في الإطار المحلي أو الإقليمي أو الدولي هو قدرتها على توليد المعرفة، وليس ترديد الأناشيد والتواشيح والأذكار، أي أن فعاليتها الفكرية هي المعيار. فكلما كانت وسيلة تواصل ومعرفة واكتشاف، لا وسيلة اتصال فقط، اكتسبت طابعاً شمولياً يعنيني بالقدر الذي يعني الناطقين بها. ولا عبرة بكون هذه اللغة أو تلك لغة جماعة قليلة العدد أو كثيرة العدد، العبرة في حيويتها ودورها على صعيد التنوير.
هناك لغات كثيرة في عالم اليوم يبلغ تعداد الناطقين بها الملايين عدداً، ومع ذلك لا دور لها لا على صعيد الفلسفة والعلوم، ولا على صعيد الآداب والفنون حتى. الكمية الناطقة بلغة من اللغات لا اعتبار لها في هذا المضمار، لأن أمثال هذه اللغات التي تعتني بوسيلة الاتصال فقط من دون عناية بمادة الاتصال ذاتها، لا تملك أن تكون لها وظيفة توصيل ومشاركة في نقاش أو جدل يتناول مصاير أصحابها. إنها في أدنى السلم، ليس بالمعنى الذي ذهب إليه بارغاس بالحديث عن ثقافات عليا وسفلى، بل بمعنى عملها على مستويات الفكر الإنساني العليا. هي في أدنى السلم لأنها تهتم بإقامة اتصال بين كائنات على صعيد بدائي يتعلق بتلبية حاجات بدائية.
الأسئلة المهمة بالنسبة لإنسان العصر الراهن، وكل عصر، هي: ما الذي تحمله هذه اللغة أو تلك من رؤى؟، ماهي الوظائف الفكرية التي تخدمها؟، وما الذي تفتحه من آفاق؟، ما الذي تفتحه من المجاهل التي لا نعرف عنها شيئاً؟.
ومن نافل القول إعادة التأكيد على أن فرض لغة من اللغات، أوتوسيع رقعة انتشارها، يعنيان أهميتها وفعاليتها بالضرورة. قيمة اللغة تقع في مجال آخر؛ في كونها عيناً تبصر، ووجداناً ينطق، وتجربة مفكرة تتقدم على صعيد الوجود الإنساني الشاسع لتفتح أبواب المعرفة بشتى أنواعها.
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *