كثر الحديث بعد معرفة النتيجة النهائية للرئاسيات الفرنسية الأخيرة، والتي كرست فوز إمانويل ماكرون – بأصوات 15 % من المسجلين فقط ! – ، عن علاقة هذا الأخير بالفلسفة وبالفيلسوف البروتستانتي الراحل بول ريكور. بل وصل الأمر إلى حد الابتهاج بهذه النتيجة: << مع ذلك ليس في وسعنا سوى الابتهاج برؤية رئيس للدولة سيخرجنا أخيرا بالتواصل وعناصر اللغة من الصحراء الفكرية، المفتقدة للهوية الثقافية، التي وضعنا فيها الرئيسان السابقان>> (ريجيس دوبري. ترجمة سعيد بوخليط).
بعد مرور خمسة أشهر على تولي ماكرون للرئاسة، عاد بعض المفكرين للبحث في علاقة هذا الأخير بريكور التي دامت سنتين، وبالفلسفة عموما. يقول أوليفيي آبيل[1]، وهو من المتخصصين في فكر ريكور: << لا أريد تفنيد كون الرئيس الفرنسي الحالي، كان خلال شبابه صديقا للفيلسوف، ولا كونه ساعده في العمل التحريري لكتاب ” الذاكرة، التاريخ، النسيان”>>.
لكن هل تأثر التلميذ إيجابا بأستاذه؟ وهل كان هذا الأستاذ فعلا قدوة لغيره؟
يسجل أوليفيي آبيل أن هناك استمرارية في فكر ماكرون، لكن الأمر لا يتطلب بحثا عميقا للوقوف على الاختلافات الجذرية بين أقوال الرئيس وبين أفكار الفيلسوف. أولا، بخصوص التاريخ والذاكرة، ليس من حق ماكرون أن << يفرض طريقته في استخلاص العبر من الماضي وتعريف الحاضر>>، لأن الأمر يتعلق بذاكرات متعددة وبتاريخ لم ينته بعد. ثانيا، إذا كان ماكرون يرى ضرورة عدم التفكير في الفرد كذات تحظى بحقوق نظرية، فإن ريكور ينظر إلى الذات القادرة كذات مذنبة، هشة، ومعترفة بحاجتها إلى الآخرين. الفرق كبير إذن بين “المبادر” غير المدين للآخرين بشيء، كما يرى ماكرون، وبين تصور ريكور للذات. ثالثا، ليس هناك اتفاق بين ما جاء على لسان ماكرون من رغبة في إعادة تشكيل الخطاب والمسؤولية السياسيين لإعادة الثقة في الفعل والكلام السياسيين، وبين تأكيد ريكور على هشاشة اللغة السياسية، وعلى وجود “شر سياسي” كنوع من المرض الخاص بالرجل السياسي وبعقلانيته. رابعا، لا يرى آبيل أي علاقة بين فلسفة ريكور وبين اعتبار “الدائرة الاقتصادية” كفيلة بفهم وتمثيل كل شيء.
أما المؤرخ الفرنسي باتريك بوشرون[2]، فإنه صرح بخصوص صلة ماكرون بالمفكر الإيطالي ماكيافيل: << ليس مستبعدا أن قراءة ماكيافيل ساعدت ماكرون في فهم ذاته. ماكيافيل وصل إلى سدة الحكم عن طريق السطو…ماكرون هو ماكيافيل بالمقلوب، أو على الأقل، إنه سار في الطريق المعاكس: لقد تخلى عن الفلسفة السياسية قبل الذهاب نحو السياسة>>.
ماكيافيلية ماكرون هي ما جعل المفكر هنري بينا- رويز ينشر مقالا في يومية لوموند[3]، ينتقد فيه مراجعة ماكرون لقانون الشغل، مبينا ابتعاد هذه الأخيرة عن تصورات ريكور وراولز: << دراسات ماكرون الفلسفية حملته إلى بول ريكور وجون راولز، لكن تصريحاته القديمة والأخيرة لا تتطابق إلا بشكل سيء مع المفكرين المذكورين. فمنذ كانط، الذي يستشهد به ريكور كثيرا، أصبحنا نعرف أن مركز الإيتيقا هو احترام الإنسانية في كل كائن بشري. لقد نسي الرئيس المبدأ العملي ” تصرف بطريقة تجعلك تعامل الإنسانية في شخصك وفي شخص الغير دائما وفي الآن ذاته كغاية وأبدا لا كوسيلة”، عندما تجرأ على التفوه بالكلمات التالية: ” المحطة هي مكان تصادف فيه الناس الذين ينجحون، والناس الذين هم لا شيء”>>
ويضيف بينا- رويز<< قام السيد ماكرون، ، بوصف الأشخاص الرافضين لإصلاحاته بالخاملين…لكن عليه أن يعرف أنهم لا يرفضون أي إصلاح كيفما كان…ومنذ متى أصبحت الشتيمة تحل محل الحجة؟ لا ريكور ولا راولز سيتعرف على ذاته في احتقار رئيس الجمهورية لمن لا يفكر ولا يتصرف مثله.>> وبخصوص قانون العمل يسجل المفكر الفرنسي << الإصلاحات لا تلبي سوى مطالب منظمة أرباب العمل (ميديف)…وهذا يناقض مبدأ العدالة الذي قال به راولز>>، ثم يستخلص << سياسة الرئيس مناقضة تماما لإيتيقا ريكور ولسياسة العدالة عند راولز>>.
وفي يومية ليبراسيون عاد بينا- رويز رفقة صديقه سيريل بارد[4] لانتقاد سياسة ماكرون من جديد: << ثمة أسطورة تبنين الماكرونية، وباتساع أكثر، الخطاب النيوليبرالي الذي ليس إلا التجسيد المبتسم لها: إنها أسطورة الحركة. الحركة… التي يفترض فيها تمكين البلد من التكيف مع متطلبات ” الحياة السائلة” التي نَظَّر لها زيجمونت باومان>>
من جهة أخرى، فضل المفكر دوني كولان التذكير بمرحلة غير مشرفة من حياة ريكور ، معلم ماكرون؛ ذلك أن ريكور انتمى إلى حلقة بيتان Pétain عندما كان أسيرا في معسكر للضباط الفرنسيين، وكان يلقي محاضرات تشكك في قيم الجمهورية والديمقراطية. ريكور لا ينكر ذلك (<< أنا نادم عن سوء تقديري>>)، لكنه صمت لعقود، حتى اكتشف أحد المهتمين بالصدفة سنة 1994 مقالات نشرت بمجلة “الوحدة الفرنسية” الممجدة للماريشال بيتان، رئيس حكومة فيشي. يستفاد من المقالات المنشورة أن ريكور كان أحد مروجي إيديولوجيا بيتان، لكنه لم يشر إلى ذلك من قبل وهو صاحب كتاب ” الذاكرة، التاريخ، النسيان”. وبعد اكتشاف أمره، صرح في كتابه ” الانتقاد والاعتقاد”: << أنا مدين للحقيقة بالقول إنني إلى حدود 1941 ، وقعت مع آخرين – البروباغاندا كانت قوية – تحت إغواء بعض مظاهر نزعة بيتان >>. لكن لماذا لم يقع مفكرون آخرون، أمثال ألتوسير وكفاييس وغوسدورف، إلخ. تحت تأثير الدعاية وحافظوا على صفاء فكرهم والتزامهم؟
يحكي جورج غوسدورف في مذكراته[5] ، عن لقائه بريكور في معسكر الأسرى الفرنسيين، في النص التالي: << علمت فور وصولي إلى هذا المعسكر، أنه يأوي رفيق دراسة سابق، كنت تعرفت عليه في باريس، بروتيستانتي ومناضل اشتراكي. وقيل لي أيضا أنه كان أحد ألمع الدعاة المروجين للثورة الوطنية المزعومة، في حلقات بيتان. اتصلت به لسؤاله عما يروج حوله، أقر بالوقائع. وتحت وقع الغضب الذي كان يعتريني آنذاك، اتهمته بالخيانة العظمى تجاه واجبات الفكر. بكى وصرح لي ” كنت مغفل الاشتراكيين، كنت مغفل أتباع بيتان”، أقسم لك أنني لن أمارس السياسة أبدا>>
مما سبق يبدو أن لا المعلم كان قدوة حسنة ما دام أنه تنكر خلال سنوات لما ضحى آخرون بحياتهم من أجله، ولا الرئيس الفرنسي استفاد من الفلسفة التي درسها، ما دام تنكر لكل القيم والمبادئ الإنسانية النبيلة التي ينشدها الفلاسفة.
[1] الحقائق الأربع لريكور. مجلة لوبس، عدد 2749 (13 يوليوز 2017 )
[2] ما يدين به ماكرون لماكيافيل. مجلة لوبس عدد 2749 ( 13 يوليوز 2017 )