خاص- ثقافات
*أحمد ثامر جهاد
في حوار استثنائي بين القناصين الغريمين يشير القناص العراقي في سياق حديثه عن شكسبير وروبرت فروست وبعض شعراء امريكا إلى قصيدة الغراب الشهيرة (1845) للكاتب ادغار الان بو، احد اهم رموز الثقافة الامريكية ويلمح المشهد( ايزاك يضطجع شبه نائم والغراب ينهش لحمه) الذي يمر سريعا مثل استراحة مؤقتة تخفف من الاستغراق بالتفكير العنيف، إلى ثيمة الغراب الذي ينهش قلب الرجل الضحية فيجعله تعيسا مكلوما، إلى أن يقول الرجل التعيس مناشدا الطائر الاسود، اتركني ولا تفسد وحدتي. اخرج منقارك من قلبي واذهب بعيدا عن داري.
***
منذ نحو قرن تقريبا وضعت هوليود جلّ امكانياتها في خدمة الحرب. اذ قدمت المؤسسة السينمائية العتيدة خدمة عظيمة للولايات المتحدة الامريكية بشكل جدي ومؤثر، لاسيما اثناء الحرب العالمية الثانية، حينما سخرت مرافقها الانتاجية وكتابها وتقنييها ونجومها في اطار دعم جهود الحرب الوطنية ضد شبح النازية. تطوع في تلك الحملة العديد من كبار النجوم والمخرجين بينهم (جون فورد، جون هيوستن، كيرك دوغلاس، جون واين، جيمس ستيوارت واخرين..) وقدمت مؤسسات هوليود الانتاجية خدماتها الجليلة (دعاية وترويجا وجوائز) للأفلام التي تنحاز إلى حروب امريكا وتمجد بطولاتها، بغض النظر عن الاكاذيب والمبالغات التي يجري تمريرها في سياق بروباغندا مدروسة. لكن في المقابل لم يكن ذلك مانعا امام ظهور عدة افلام امريكية تنتقد الحرب وتكشف عدوانيتها او تعري وجهها القبيح، على الاقل منذ حرب فيتنام وصولا إلى حربي افغانستان والعراق مرورا بحرب الخليج الثانية.
في الغضون حظيت الحرب الامريكية على العراق عام 2003 والتي تعد اكثر حروب امريكا دموية واقلها شعبية، باهتمام مخرجين كثر، تفاوت مستوى افلامهم فنيا كما افترق في زاوية النظر إلى تلك الحرب وطريقة معالجتها على الشاشة بين من يكتفي بعرض صور العنف ومخاطر الموت المحدق بالجميع او من يذهب إلى التقاط مآسي الحرب ببعدها الانساني عبر قصص واقعية تسمى مجازا(أدب الفظاعة)هي جزء من ذاكرة الحرب وشهادة ناجزة من شهاداتها.
بشكل عام يمكن القول أن معظم الافلام التي تناولت الحرب الامريكية على العراق اقتربت-الى حد ما- من ادانة الحرب بشكل او بآخر بوصفها مأزقا ميدانيا واخلاقيا عبر اظهار القسوة المفرطة التي تعامل بها الجيش الامريكي مع المواطنين المحليين او من خلال تتبع الاثر الجسدي او النفسي البالغ الذي خلفته الحرب على الجنود، وذلك تناغما مع رأي عام رافض لتلك المغامرة وما ترتب عليها من نتائج مؤسية. لذا لم يكن موضوع حرب العراق مفضلا بالنسبة للمنتجين الامريكيين الذي يفكرون بمنطق شباك التذاكر، فلا احد يحبذ رؤية اشلاء الجنود الامريكيين متناثرة هنا وهناك بفعل المفخخات او رصاص القناصة العراقيين.
وقد جرت العادة أن الاحداث الكبيرة والملتبسة تحتاج إلى مسافة زمنية كافية لجلاء حقيقتها واستيعاب نتائجها الفعلية بطريقة اكثر عقلانية، تتخطى غواية الميديا الامريكية العملاقة التي يهمها تسخير ادواتها الناعمة لإظهار (براهين القوة ومدياتها) بغض النظر عما سببته حروب امريكا من خراب ودمار وفوضى تحت طائلة ارساء الديمقراطية والحرية.
موسم حرب ومساءلة
اكثر من فيلم انتج خلال العام 2017 حول حربي افغانستان والعراق، افلام متفاوتة الاداء والمستوى سعت ما بوسعها لكسب اعجاب الجمهور. في فيلم (Megan Leavey) للمخرجة (غابرييلا كوبرثوايت) لم تعد تجربة الحرب على العراق هي المسألة المحورية التي يجب التعاطي معها بقدر من التركيز والتأمل، بل اصبح الفيلم مكرسا لتتبع علاقة الشابة ميغان ليفي(الممثلة كايت مارا) المجندة في فرقة(k9) مع كلبها المدرب الذي انقذ حياتها وحيوات بعض جنود المارينز من تفجير العبوات الناسفة في مدن غربي العراق. ورغم أن الفيلم (انتاج شركة يونفيرسال) المصنف كدراما حرب وسيرة ذاتية يستند إلى وقائع يفترض انها حقيقية، الا أن حكاية الحرب الفعلية بوصفها ثمنا انسانيا باهظا لم تعد بحد ذاتها كافية -على ما يبدو- لجذب جمهور المشاهدين إلى هذا النوع من الافلام التي لم ينل عديدها رواجا كافيا، من دون شحنة عاطفية مشوقة تخفف شيئا من قتامة موضوعة الحرب.
في الغضون تمكنت مخرجة الفيلم عبر ادارة كادرها الفني من مقاربة بيئة الحرب رغم عدم اسرافها في مشاهد القتال، ووظفت-الى حد ما-خبرتها الوثائقية( سبق لها أن اخرجت الوثائقي المتميز الحوت الاسود) بهدف اظهار اهمية الصورة التي تكشف بفطنتها عن مكنون الذات الانسانية دون اضافات مستهلكة. في نهاية الامر لن يترد احد من الأمريكيين في تشجيع المقاتلة ليفي التي نالت مع كلبها المتقاعد “ريكس” وسام الشجاعة في احتفال وطني بهيج يجعل من احداث الفيلم تسلسلا مفهوما ومريحا للمشاهد الذي تكيفت حواسه مع التصور الهوليودي لعالمنا.