ريلكه في روايته الوحيدة .. حين تحاصره وإياها هواجس وأسئلة الوجود الكبرى

*بديعة زيدان

” … منذ ذلك الحين أخذت أفكر كثيراً في الخوف من الموت، ليس من غير الأخذ بالاعتبار بعض التجارب الخاصة في أثناء ذلك. أعتقد أنه كان في وسعي القول فعلاً إنني شعرت به. كان يداهمني في المدن المكتظة، وسط حشود الناس، بلا سبب في معظم الأحيان. ولكن غالباً ما كانت الأسباب تتكدس حين، على سبيل المثال، يموت أحدهم على مقعد في الطريق ويقف الجميع هنا وينظرون إليه، ويكون هو فعلاً قد أصبح وراء الخوف: فقد صرت أحمل خوفه.. أو في ذلك الوقت في نابولي، كانت هذه الفتاة الشابة تجلس قبالتي في الترام وماتت. في البداية بدا الأمر كأنه إغماء، حتى أننا واصلنا السفر، ثم لم يعد أي شك في ضرورة التوقف. وراءنا كانت العربات تقف في ازدحام وكأن السفر لن يجري أبداً في هذا الاتجاه بعد ذلك … ولكنني كنت خائفاً منذ وقت أبكر، عندما مات كلبي على سبيل المثال، الكلب نفسه الذي ألقى عليّ الذنب في كل شيء. كان مريضاً جداً وكنت راكعاً قربه طوال اليوم، حين نبح فجأة نباحاً أجش قصيراً، مثلما كان يفعل إذا دخل الغريب الغرفة، كان مثل هذا النباح علامة متفقاً عليها بيننا جميعاً. نظرت تلقائياً ناحية الباب، بيد أنه كان قد صار في داخله، بحثت عن نظراته بقلق، وكان هو أيضاً يبحث عن نظراتي، ولكن ليس من أجل الوداع، نظر إليّ بقسوة واستغراب، كان يتهمني بأنني سمحت له بالدخول، كان مقتنعاً بأنني كنت قادراً على منعه، والآن يتبين أنه قد بالغ دائماً في تقديري، ولم يعد هناك متسع من الوقت لتوضيح ذلك، ظل ينظر إليّ مستغرباً ووحيداً، إلى أن جاءت النهاية”.

لعل هذه الفقرة من رواية الشاعر الألماني فائق الشهرة راينر ماريا ريلكه، والمعنونة باسم “مذكرات مالته لوريدز بريغه”، وترجمها وقدم لها من الألمانية إلى العربية د. إبراهيم أبو هشهش، تعكس ذلك القلق الوجودي لدى مؤلفها، حيث تحاصره وإياها هواجس الموت، والمرض، والخوف، والعزلة، وحتى الحب، إلى مداها الأقصى، في رواية وصفها المترجم بالانطباعية، بل بالمؤسسة في هذا المجال، في زمن كانت تترسخ فيه قواعد الرواية الواقعية مطلع القرن العشرين.

والانطباعية في الأدب، وفق قاسم مقداد في الموسوعة العربية، هي مدرسة أدبية فنية ظهرت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر في فرنسا، ترى في الإحساس والانطباع الشخصي الأساس في التعبير الفني والأدبي، لا المفهوم العقلاني للأمور.

ويرجع ذلك إلى أن أي عمل فني لا بد من أن يمر بنفس الفنان أولاً، وعملية المرور هذه هي التي توحي بالانطباع أو التأثير الذي يدفع الفنان إلى التعبير عنه، فالانطباعية من هذه الوجهة هي محاولة للتعبير عن الأحاسيس الفورية للعالم والأحداث.

الرواية التي لم يسمها صاحبها رواية قط، ويمكن إدراجها أيضاً في إطار كتب السيرة الذاتية بشكل أو بآخر، تنقسم لثلاثة أجزاء، أولها ينطلق من شارع باريسي في وقت كانت تعاني فيه المدينة من فوارق طبقية كبيرة، وهو ما جعل مالته الشخصية الروائية أو ريلكه نفسه، ربما، يعاني فيها من الخوف والضياع ومن مشاعر وسواسية قهرية، خاصة أنه وفد إليها بعد رحيل والديه الأرستقراطيين، وليس بحوزته إلا حقيبة ملابسه وصندوق كتبه، وهو القسم الذي يرى فيه المترجم تقاطعاً كبيراً مع حياة ريلكه نفسه.

أما القسم الثاني فيتناول طفولة مالته ونشأته في قصر جده لأبيه، أو قصر جده لأمه، في نقيض للحياة اللاحقة في باريس حيث العوز والوحدة والرعب الذي يتسكع في عقله ويومياته وواقعه المعيش، فمن يفقد قدرته على أن يعيش حياته الخاصة يفقد القدرة على أن يموت موته الخاص أيضاً، كما أنها نقيض مكاني لمرحلة باريس ما بين حياة الريف والمدينة التي تتلاشى فيها الخصوصية.

والقسم الأخير من الرواية الصادرة عن دار الشروق للنشر والتوزيع، يتضمن معالجة ريلكه وقراءاته وتأملاته في شخصيات وأحداث تاريخية وأسطورية، يؤكد أبو هشهش، أن لا روابط سردية بينها، لكن ما يميزها تناولها العميق لأسئلة الوجود الكبرى المذكورة آنفاً، مع الإشارة إلى أن الحب احتل مساحة كبيرة في هذا الجزء بالذات.

ويرى المترجم أن أحد أبرز سمات الرواية غياب الحدث المركزي، ما يجعل من وصفها واحدة من الروايات الأولى التي مهدت الطريق للرواية الحديثة وصفاً دقيقاً، لافتاً لـ”أيام الثقافة” إلى أن صعوبة أجزاء عدة في الرواية، وخاصة الأخير منها، جعل من التقديم والحواشي والهوامش أمراً ضرورياً لتسهيل مهمة القارئ العربي في التعاطي مع واحدة من أهم السرديات النثرية لشاعر فذ قرر، عن وعي أو بتلقائية الانطباعي، الكتابة عن التجارب الوجودية الكبرى للإنسان المعاصر.

ومن المقاطع المعبرة عما سبق بما يحويه من فلسفة وجودية وعمق يتكئ على رؤية ثاقبة، ذلك الذي يتحدث عن ما وراء الوجوه، وجاء فيه “لم أكن قط من قبل كم يوجد من الوجوه؟ .. هناك عدد كبير من البشر، ولكنّ هناك عدداً أكبر من الوجوه، فكل شخص له وجوه متعددة. هناك أناس يرتدون وجوههم سنوات عدة، ولكنها تبلى بالطبع، إنها تغدو متّسخة، تتشقق عند الغضون، وتتسع مثل قفاز لبسه المرء أثناء الرحلة. هناك أناس مقتصدون بسطاء: لا يستبدلونها ولا ينظفونها مرة واحدة، ويزعمون أنها جيدة بما يكفي، فمن يستطيع أن يقنعهم بعكس ذلك؟ .. السؤال الذي يطرح نفسه الآن، إذا كانت لهم وجوه متعددة، فماذا يفعلون بالوجوه الأخرى؟ .. إنهم يحتفظون بها، فأبناؤهم ينبغي لهم أن يرتدوها، ولكن يحدث أيضاً أن كلابهم تخرج وهي ترتديها، ولم لا؟ .. فالوجه هو الوجه”.
________
*الأيام الفلسطينية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *