أجدادنا السوريون: في حضن الفينيقيتين الجميلتين

*منصف الوهايبي

في أواخر سنة 2007، أيامًا معدوداتٍ، قبل أن ينام أبي نَومَتَه الأبدية، وجدته جالسا على حاشية سريره في مدخل الدار؛ وكان قد هجر غرفته منذ أشهر، واستقر به المقام هناك، قريبا من الباب، الذي صار لا يُغلق أبدا، مفتوحًا ليلَ نهارٍ. كنتُ قد حاولت أن أثنيَه: «يا سِيدي (تعلمنا أن نناديه هكذا)، أنت عرضة للبرد والحر هنا؛ فلماذا لا تعود إلى غرفتك؟» فأبَى: «يا منصف، دعني أرى وجه الله!». لم أخض في الأمر بعدها؛ إذ كان، على لُطفه، عنيدا، ولم يرجع أبدا في أمر عزم عليه؛ ولم يعد إلى غرفته إلا مسجى، ليبيت فيها ليلته الأخيرة، وهو لا يدري، أو ربما كان يدري. رفع بصره إليّ وقال: «كنتُ أعلم أنك ستأتي.. قالوا لي إنك في العاصمة، في ندوة علمية»؛ صافحته وقبلته، وهو يقول ضاحكا: «لقد غير مرضي من طباعك؛ منذ متى تُسلم فتُقبل؟». وكان مألوفا في أهلي، أن يغيب الواحد منا أسابيعَ أو شهورًا؛ فإذا عاد، سلم بإيماءة أو مصافحة حازمة خاطفة؛ ولم يكن ذلك جفاءً في الطبع، ولكن، كنا كأننا لم نفترق وكنا كأننا لا نفترق. جلستُ إلى جانبه، وهو يقول لي: «هل أفطرت؟ خذ هذه التفاحة»؛ وهو يشق التفاحة نصفين، نظرتُ إلى يده اليُمنى، وقلتُ: «يا سِيدي؛ هذا أثر جُرح لم يكن هنا؛ يبدو قديما جدا، فكيف لم ألحظه من قبل؟»، وضع التفاحة والسكين جانبا، على طاولة صغيرة، عاشَرَتنا طويلا، حتى صارت فردا من العائلة؛ كان أبي قد اقتناها من سوق الأثاث القديم، سنة 1957، بسط ظهر يده، وهو يمر بأصابع يسراه على الجرح القديم: «معك حق؛ منذ يومين، استيقظتُ على أَلَمٍ؛ ونظرتُ، فإذا هو هنا؛ أنا نفسي، كنت مندهشا؛ ثم تذكرت.. هذه ضربة خنجر، أصابتني، منذ سبعين سنة، وأنا دون العشرين، لم يكن جرحا غائرا في اللحم، ولكنه كان غائرا في القلب؛ ثم فعلت السنون فعلها في الروح وفي العظم وفي الجلد؛ حتى امحى تماما ولم يبق له أثر؛ وكنتُ أحسب الأيام قد محتُه إلى غير رجعة، فإذا هو يعود بعد كل هذا العمر».
تذكرتُ تلك العشية من بدايات شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2007، وأنا أستيقظ هذا الفجر الممطر؛ على ألم وعلى أثر جرح، في ظهر يدي اليمنى. لقد سهرت واستيقظت وأنا أكتب حينا وأشطب على هذه الورقة أو تلك، وأنقر على الكمبيوتر بهذه الإصبع اليتيمة. أنظر من النافذة المطلة على صحن الدار إلى شجرة الزيتون وشجرة الرمان. كنت قد سميتهما «الفينيقيتين الجميلتين». الفينيقيون أجدادنا السوريون هم أول من أدخل شجرة الرمان إلى إفريقية، وكانوا في بداية حياتهم الفلاحية، يستخرجون الزيت من أشجار الزيتون البرية. ثم اهتدوا إلى زرعها، حتى لا يحتاجوا إلى مقايضة الزيت. ولكن رمانتنا هذه رمانة عاشقة كما يسميها التونسيون.. حبوبها سوداء دائما. في بيت صديقي الشاعر جون كلود فيلان في سيدي بوسعيد، رمانات كثر. قال لي: وقد قرب واحدة منها إلى أذني وهو يحركها : «أتسمع؟» كانت صلصلةَ أجراس. قال ضاحكا: «أحفظ الرمانات في الشمس، حتى تجف.. ستتساقط حبوبها.. النوى داخلها سييبس» ثم أسر لي، وقد ذهبت صديقته ماري جوزي تجلب لنا القهوة» هل تدري منصف؟ الرمان مهيج.» قلت: «أعرف ذلك.. مثل الجوع».
٭ ٭ ٭
لم تكن أمي تغني، ولكنها كانت «تزن» كما نقول بالتونسي، حتى يوم رحيلها. وقادني هوسي باللغة إلى أن الكلمة من «زم»، وزم الصنبور: صوتَ. تزن أو تزم كأن الصوت ليس صوتَها. هي نفسها، تقول لنفسها: «ياه! كأن هذا الصوتَ ليس صوتي». هتفت إليها من البرتغال ذات يوم من عام 1990: «أمي؛ سأصل غدا مساءً». وهي لا ترد. «لماذا لا تردين يا أمي؟». لو أصخت إلى صمتها، ربما سمعت بعضا مما تقول لنفسها في نفسها. كم عمر منصف اليوم؟ تركت القِدر على الموقد، ووقفت إلى النافذة العريضة التي تطل على الحديقة الصغيرة، تعد السنوات. في الحديقة شجرة رمان وشجرة زيتون. شجرة الرمان تتعرى من أوراقها الصفراء؛ باردٌ شهر نوفمبر تلك السنة؛ فلماذا تتعرى الشجرة والطقس بارد صقيع؟ شجرة الزيتون مثقلةً، ترخي أغصانها للحَب الأخضر الذي بدأ يميل إلى سواد. منصف يقترب من الأربعين. ياه! يا منى! كم تجري السنوات! لا بد أنك أخطأت الحساب يا منى. عادت تعيد الحساب؛ في آخر يوم من نوفمبر 1975، أَتم الخامسة والعشرين من عمره. يومها، حفر أبوك في الحديقة حفرة، وقال لها: «يا منى، سأغرس رمانة هنا، وسنأكل أنا وأنت ومنصف، من ثمرها بعد ثلاث سنوات».. وأثمرت الرمانة في عامها الثالث؛ ولم تذق يا منصف ثمرة الرمان. كنت أيامها في فرنسا. كانت القِدر تفيض على النار، فأسرعتُ إليها، أزيحها، حتى اكتوت أصابعي. غمستها مكتوية في الماء البارد..عندما بنى أبوك هذا البيت، عز عليه أن يقتلع الزيتونة، فهي كانت هنا قبل أن نأتي؛ فتحايل ومال بالجدار قليلا، ولذلك بدت غرفتك منحرفة، ولكن ذلك لا يعيبها في شيء؛ فأنت والزيتونة شريكان في هذه الرقعة الصغيرة؛ والزيتونة لم تنس فضل أبيك؛ فكلما مدت أغصانها، مالت وانثنت على نفسها حتى لا تحجب عن نافذتك شعاع الشمس».
٭ ٭ ٭
كازينو القيروان كان عالمنا الآخر، قاعة سينما اندثرت منذ سنوات. كانت أولَ قاعة أفتح فيها عينيّ على السينما، أوائل الستينَيات؛ وغير بعيد، كانت قاعة باريس وتلك أيضا اندثرت منذ عقود وانتصب مكانَها قصر العدالة؛ ولم يخلف غيابها في نفسي أثرا كبيرا أو صغيرا، فلم أرتَدها إلا لماما، قبل أن تأتي عليها الجرافات والمعاول في رمشة عين. أما الكازينو، فقد عاش بعد «باريس» ردحا من الزمن، طويلا، وكان بيني وبينه مودة وألفة، فقد رافقتُه في كِبَره، ورافقني في طفولتي وبدايات شبابي، وتفتق خيالي على حكاياته وصوره، حتى لم يعد لخيالي حد، تماما، مثل ملكوت الأرض والسماء، أو أبعد، إن كان بعد البُعدِ بعدٌ. وكنت أرافق الصحبي أخي، وهو أصغر مني بعامين؛ ونحن يافعان؛ إلى هناك، فنسهر حتى منتصف الليل، ثم نعود آمنَين. كان ذلك في بداية الستينيات؛ ياه! ما الذي قد فعلوا بالقيروان، حتى صارت كما أرى؟ كان في يسار البهو الفسيح مقهى حانة، تغص بروادها، وهم يتحدثون بأصوات منخفضة كأنهم يتهامسون؛ قبل أن يأتيَ عليها الرعاع والدهماء. كنا نسترق النظر إلى المقهى وإلى أضوائه؛ وأنا أشرح وأفيض في الشرح، والصحبي يسألني: مِن أين لك بهذا كله، ونحن نقرأ الكُتب ذاتها؟ كنت أبدأ الفرجة منتبها للشريط القصير وللأخبار المصورة التي تسبق؛ حتى إذا بدأ الشريط الرئيسي، فتر اهتمامي وداهمني النعاس، والصحبي يرجني: استيقظ! استيقظ يا منصف! وأنا أفتح عيني جاهدا، ثم أعود إلى نومي. حتى إذا غادَرنا القاعة، ظللت أسأله: لقد تملكني النوم؛ لكن قل لي: هل مات عمر الشريف؟ ماذا فعلت فاتن حمامة؟ هل فتح «باب الحديد» و.. و؟ والصحبي ـ كما عرفت لاحقا ـ يزيد وينقص حسب رغبته، فيحيِي ويميت ما شاء من أبطال أيام زمان من المصريين والمصريات خاصة.. أحمد مظهر.. عبدالحليم.. شادية.. فريد.. توفيق الدقن.. فريد شوقي؛ حتى الأشرار الذين يناصبون البطلَ العداء، وأنا ما بين مكذب ومصدق. فلم أكن أطمئن قط إلى خيال الصحبي وهو يشرد ويجنح: «هل أنت متأكد من ذلك؟ هل أنت متأكد من أن النهاية كانت كذلك؟»؛ ويأتي جوابه باردا «يا أخي، تفرج غدا، إذا لم تصدق؛ ولكني لا أضمن أن تبقى النهاية على حالها، فقد يجد الجديد». كنت ـ لأغيظه ـ وقد شبعت نوما؛ أسرع في مشيتي، كأنما الأرض تطوى لي وهو يجهد نفسه.
في سنوات الشباب، ونحن طلبة في الجامعة، كنا نقتطع من عطلتنا الصيفية أياما معدودات، نقضيها أنا والصحبي مع اثنين من أصدقائنا، في نزل بسيط، في مدينة سوسة، نستحم ونستجم؛ ولم يكن لأيامنا تلك عد أو حساب، فهي تطول وتقصر، وقد تنتهي على حين غرة، بنفاد ما ادخرنا من المنحة الجامعية. كنا نلجأ ما بين الظهر والعصر إلى قاعة سينما، بدون أن نتخير الفيلم أو نعرف عنوانه؛ والصحبي يرجني في المقعد المحاذي رجا خفيفا:»يا منصف استيقظ! لقد بدأ الفيلم»؛ وأنا أنخر مغتاظا:»يا رب! نحن محرومون من النوم في البيت، ومحرومون من النوم هنا! يا أخي تفرج وحدك! أريد أن أتمتع بقيلولتي!».
كان أبي يقف على عتبة الباب في القيروان:»يا صحبي، أين أخوك؟»؛ والصحبي يبرر شامتا:» تركته نائما في حضن الفينيقيتين الجميلتين». وأبي:»ماذا؟» والصحبي:»ربما تحت الرمانة، أو الزيتونة.. لا.. لا في الكازينو! إنه يأبى أن يستيقظ».
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *