جدلية السيد والعبد في رواية سميحة خريس «فستق عبيد»: قراءة طباقية

*رزان إبراهيم

تلك رواية ما إن تقلب صفحتها الأخيرة حتى ينتابك شعور بأن مبدعتها قامت باستخراجها من كومة أحداث تاريخية متفرقة، بدت كما المادة الصلصالية الأولى، غرفت منها وجمعتها، وأعادت بناءها لتستوي منجزا متخيلا، يصطرع في داخله أكثر من صوت، الغرض منه لغة تحررية تترك المساحة واسعة لشخصياتها للتعبير عن وجهات نظرها في علاقة حوارية متبادلة، دون أن يمتزج وعي أي من هذه الشخصيات بوعي المؤلفة بطريقة فجة مباشرة.
وإذ تتخذ الروائية هذا المسار، فإنها تكون بذلك قد اختارت لغة تمنح ذوي البشرة السوداء فرصة نادرة ثمينة، كي يحكوا حكايتهم في عالم حكم عليهم عبر سنوات طويلة بالصمت المطبق، علما أن ارتفاعا في وتيرة تصعيد التمثيل المضاد، لم يكن ليحجب الصوت المهيمن، بحكم أن التمثيل الأحادي كما يقول إدوارد سعيد مستحيل، ومن هنا يحضر مصطلح القراءة الطباقية، التي تدخل في حسابها عملية الهيمنة من جهة، وعملية مقاومة هذه الهيمنة من جهة أخرى.
عطفا على ما سبق، فإن أبطال هذه الرواية يتوزعون بين أصحاب (بشرة سوداء/ عبيد) و( بشرة بيضاء/ تجار) لم يكونوا من الأوروبيين فحسب، فهم «أولاد عمم وقبعات أوروبية يقتنصون الأطفال الجوعى بغواية الفول، الذي يسمونه في أماكن كثيرة فستق عبيد». وهو الفستق الذي كان يستخدم حيلة لإيقاع كثيرين في العبودية، لذلك حرص الجد (كامونقة) على أن يزرعه كي يشبع الأولاد فلا يذهبون للعبودية. والرواية إذ تفسح المجال واسعا للجد كي يحكي قصة استرقاقه ومن ثم انعتاقه، فإنها تضع يدها على أنساق ثقافية ظالمة، عاشها الجد (كامونقة) في موطنه دارفور، أبرزها ما يكون عليه أمر العبيد من تراجع للخلف أثناء الاصطفاف للصلاة. بعد الاستماع للجد تترك الفسحة واسعة لحفيدته (رحمة) كي تحكي حكايتها منذ وقعت في حبال الشبكة التي يصطاد بها البشر كما الحيوانات، تصف لنا بعدها كيف بيعت لتاجر العبيد الجزائري، ومن ثم تحكي بكثير من أسى كيف يحشر العبيد في السفينة في زاوية مكتظة بالأغنام، التي تغثو في طريقها للمذبح في جو تملؤه القاذورات والحشرات والفئران والروائح الكريهة.
الرواية تفتح الباب واسعا لإظهار آليات دفاعية متتالية يركن إليها الطرف المهيمن عليه، فهناك على مدار الرواية جملة من المعاني والقيم والممارسات والعلاقات التي تتخلق باستمرار، مشكّلة جملة من عناصر معارضة للهيمنة أو بديلا عنها. أولاها كانت مع الجد الذي يساق إلى زريبة تاجر العبيد، ليصبح بضاعة يعرضها النخاس على منصة، فبات فعل الالتحاق بالعسكرية هدفا يسعى إليه لغرض تحقيق الانعتاق، وهو ما نجح فيه حين أصبح مجاهدا في ثورة المهدي، ليتحول اسمه من بعدها إلى (معتوق). تستوقفنا في الرواية كائنات خفية كان الجد، ومن بعده حفيدته يستمدان منها قوة خاصة تعينهما على الاستمرار؛ فحين تحبس (رحمة) في حظيرة الخنازير، استغاثت بها كي تنقذها، وهو ما ظلت تفعله حتى بعد أن فقدت نظرها كما أطرافها حين أصيبت بالجذام. إن كانت (رحمة) فور وقوعها في الشباك قد بادرت إلى المقاومة بعنف، فإنها تعود بعد ذلك وتهدأ مع سيدها البرتغالي الذي عاملها على نحو يختلف عن بقية العبيد، ليبدو أمامها بشريا ودودا دافئا، ما دفعها للانفصال عن واقعها، لدرجة أنها كانت تنظر إلى منصات بيع العبيد وكأنها لا تعنيها، وكان العبيد بالنسبة لها مجرد أشياء لها لون قاتم، ولا شيء يجمعها بهم. لكنها ما إن عادت للسفينة وبدأ السيد بالابتعاد عنها، حتى وجدناها تفكر بحرية من نوع آخر، وهي حرية روح حية محلقة تحب وتكره داخل جسد مقهور. ومن ثم باتت تفكر بآليات أخرى للمقاومة، فاختارت أن تفهم هؤلاء البيض؛ كلماتهم وحركاتهم ولغتهم، بل انتقلت لاستراتيجية استعارتها من البيض أنفسهم، وهي التخطيط لعلاقة انتفاع مع النسوة على سطح الباخرة، وهو ما نجحت فيه حين بدت لهن نافعة بامتياز.
تحضر الطبيعة ملاذا يمنح بعض شخوص الرواية فرصتها للانفصال عن عالم المادة المقيد والدخول في آخر، ولذلك كانت لرحمة حساسيتها الخاصة تجاه الهواء والريح التي تصفر وتتأوه وتراقص الموج الأزرق العالي، وبالمثل راقبنا ابنتها من بعدها تفر إلى الغابة، وتسمي شجرات الكستناء العجوز كل واحدة باسم يشبهها، تستعيرها من حكايات أمها. لكن مع توالي الأحداث القاسية التي تمر بها (رحمة)، بما في ذلك إصابتها بالجذام، فإن آليات الدفاع تبدأ بالتراخي شيئا فشيئا، تنتقل بعدها إلى حالة من التبلد، لدرجة أنها أحرقت كفها دون أن تحس، ولم يعد للزمن الذي تعيشه معنى، فنسمعها تقول: « تبلدت ظننت فجاة أن الله استجاب لأمنياتي، ظننت أني مت».
قد يحمل الجسد صفة العبد، ويكون أكثر حرية ممن يحمل هيئة الأسياد، وهو ما لمسنا آثاره مع (كامونقة) في تعامله الإنساني مع زوجته، وأثناء التحاقه بالجيش حين انفرط عقد الرجال وتفتت تركيب الجيش، فجاء موقفه صارما: «لن أهرب يا سيدي، أنا رجل حر والحر يربط من لسانه». خلافا لهذه الصورة يحضر (ساراماغو) البرتغالي الذي ابتاع (رحمة) من تاجر العبيد الجزائري سيدا بثياب فاخرة، وبروح مهترئة، فعلى الرغم من انتقاله من نشأة وضيعة، إلى أخرى إثر زواجه من ( كارولينا) الثرية التي أحبته وعاندت أهلها لتتزوجه، نجده يدخل في حجاج مع ضميره، لا يلبث بعدها أن يقرر أن لا داعي للضمير، لأنه يلعب لعبته بالتشويش على النفس، والمفارقة هنا أن زوجته نفسها تفكر فيه بكثير من الاستعلاء، إذ تلعن زمنا ساواها بمن كانت سيدة له، وهو الاستعلاء الذي دفعه باتجاه التوحد مع (رحمة) الإفريقية والإحساس بحرارتها، ولو إلى حين، ليعود إلى قواعده مفكرا برحمة أنها مجرد أمة سوداء. تتعمق المفارقة أكثر في مشهد رأينا (رحمة) فيه ترقبه وقد تبع زوجته مرخيا رأسه في مشهد مذهل دفعها للتساؤل إذن «كيف ينتقل من انحناءة رأسه وأنا أحدثه، فيرفعه بغتة ليأمرني». مشهد يذكرني بعبارة لعبد الرحمن منيف في «الأشجار واغتيال مرزوق» يقول فيها: «كل رجل عندنا ملك… أما إذا التقوا بالملوك الذين هم أكبر منهم، فإنهم يجثون على الأرض ويقبلون التراب تحت أرجلهم.. والملوك الكبار يسجدون للذين أكبر منهم».
حين تسأل الروائية المعروفة توني موريسون عن تكرار صورة البطلة الأنثى السوداء في رواياتها تقول: « لأن المرأة السوداء مضطهدة مرتين، مرة لأنها أنثى، ومرة لأنها سوداء». لذلك خافت النساء من حول (رحمة) منها حين يكون الرجال في جوارهن، فاضطهدنها، وكذلك اضطهدها الرجال حين جعلوها مستباحة، هنا تتكرر في الرواية معضلة الانتساب وعدم الاعتراف ببنوة الوليد، كما تتكرر صدمة الولادة حين يأتي الوليد أسود يجري في دمه بياض الأب، لتبقى البنية واحدة متكررة تعرض السيد الذي يرغب قبالة العبد المرغوب، بما في ذلك علاقة مثلية تربط (سانشو) السيد و(بيدرو) العبد.
يحضر الدين سؤالا في ما إذا كانت (رحمة) بسوادها تستطيع أن تلج باب الرحمة من خلاله، والحال أن (نيتا) المتدينة التي تتحدث عن معجزات الراهبة بإيمان تام، زعقت في وجهها حين رأتها تقترب من الكنيسة، بل لم تتردد في جلدها بحجة إهمال أطفالها، كما لم يمنع الدين (كارولينا) زوجة (ساراماغو) من حرق جلدتها السوداء بمشعلها، لأنها العبدة الوثنية التي دنست سقفا مقدسا، والأدهى من هذا أنها حين حبست في حظيرة الماعز، بكت وصلت بكلمات كانت قد سمعتها من الكنيسة، أو حتى من صلاة سمعت جدها يؤديها، تقول: «لم تحضر الحنون، مرآة العدل وحده (كامونقه) كان يواسي ذعري»
إن كانت الحياة القاسية تجبر البشر على التأقلم والاعتياد عليها، فإن في الرواية من يخبرنا أن في هذا خداعا للنفس ووقوعا في وهم السعادة «كأننا لم نبع ونشترى، كأننا لم نغادر سماء بلادنا لنكون عبيدا». لذلك تترك الرواية في منتهاها فسحة من أمل، تظهر مع زمرة من العبيد والأفارقة الذين رفضوا العمل في الفلاحة، وانتسبوا إلى حركات السود المتمردين في الجزر المتناثرة، ولكن ما كان للعبد (بيدرو) كما يطلق عليه سيده أن ينضم إلى هذه الزمرة، وما كان لابنة رحمة (تركية) البقاء في جزيرة، بدت لها كما لبيدرو جنــة الله على الأرض، فكلاهما تحرك عــــلى غير إرادة منه، (بيدرو) الذي يصر سيده على الاحتفاظ به عبدا، و(رحمة) التي تصر أمها على ارتحالها مع قريبها العابر (ديفو) تاجر العاج والأبنوس إلى أهلها هناك في دارفور، على الدرب ذاته الذي جاءت منه أمها، ومع أغنية تعزفها الريح، وشراع يعد بشيء غامض مختلف.
_________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *