*حاورها : خضير الزيدي
ما أن يذكر إبداع المشهد النسوي العراقي حتى تذهب الذاكرة والذهن باتجاه الروائية والقاصة والمترجمة لطفية الدليمي وما أن نشير لمواضيع التصوف والأسطورة وقضايا المرأة ومصيرها جراء حوادث العصر حتى تتناهى إلى أنظارنا ومسامعنا اسم السيدة الدليمي .لقد ألفت العديد من النصوص منذ مطلع السبعينيات وأصبحت إيقونة الأدب النسوي العراقي جراء إمكانياتها في الاهتمام بصلب الرواية وطرائق السرد وطبيعة توظيف البيئة العراقية والنظر لقضاياها الإنسانية ..في هذا الحوار هناك العديد من المحاور التي نولجها مع سيدة الإبداع العراقي لنصل لمعرفة تفاصيل منجزها والتوقف حيث اهتمامها المتواصل بعالم الترجمة لأسماء بارزة وفاعلة في الآداب والعلوم الإنسانية
** أتساءل عن اهتمامك بالموروث والتراث الصوفي وأساطير الشرق وانتقالاتك إلى روح الحياة المعاصرة هل العودة للتراث نوع من الحل المؤقت ؟ وهل هي استثمار يجب أن نراعيه في الكتابة أم هي جزء من هوية لابد من ملازمتها والعودة إليها ؟
في هذا السؤال موضوعتان متمايزتان التراث الصوفي، والأسطورة، ولابد من تناول كل موضوعة على إنفراد . يمثل التصوف – وتوأمه: العرفان – القمة المشرقة في رأسمالنا المعرفي التراثي الحافل بالنزعات الأصولية المتطرفة أو التلفيقية والمثقل بالتأويلات الفقهية التي تعمل على مصادرة العقل، وأرى أن كتابات المعتزلة وأقطابها الأكابر توفر ما يمكن توصيفه بِـ ( خارطة طريق ) للنزوعات العقلانية وسط بيئة تسيّدتها الأصولية وافتقدت المرونة التي تديم شعلة التساؤل الفلسفي وما يتطلبه بالضرورة من نزعة شكوكية لا تتقبل اليقينيات الراسخة وترفض الحقائق المطلقة، وعلى الصعيد الشخصي أرى أن ( مقابسات ) التوحيدي و( رسائل أخوان الصفا ) والنصوص الصوفية التي كتبها أعاظم المتصوفة ستبقى نبعاً ثريا للعقول المتعطشة إلى المعرفة والتواقة للرؤى والكشوفات الفلسفية والذهنية، ولن يخف توهج هذه الكتابات بل سيتعاظم في قادمات الأيام
*** هذا عن مصادر التصوف ،ماذا عن الأساطير ..؟
الأسطورة كما تعلم أمر مختلف تماماً . كانت الأسطورة – وكل ما يتعلق بها ، إضافة للحكايات الشفاهية – ضرورة ملزمة للحفاظ على التوازن الرقيق الهش بين روح الإنسان البدائي وبنيته الذهنية والسايكولوجية؛ الأمر الذي وفّر لهذا الإنسان الوسيلة والقدرة لتجاوز محدودية قوته ووجوده الفيزيائي والتفكير بأمداء أبعد من مجرد البحث عن توفير متطلبات أمنه الجسدي وحاجاته البيولوجية البدائية، وأمسى وجود الأسطورة والملاحم لدى كثير من الشعوب الحية وسيلة فعالة للترابط الروحي بين أبناء الشعب الواحد ومحفزا فعالا للنظر في موروث أنساني مشترك تجتمع حوله فكرة المواطنة ، واذكر دائما في هذا السياق الشاعر والباحث المكسيكي أوكتافيو باث حائز جائزة نوبل الذي كتب يوما : تتمنى كل شعوب العالم أن تمتلك تاريخا حضاريا ممتدا في الزمن وأن تكون لديها أساطير وملاحم ترويها لأجيالها، ولو لم تمتلك المكسيك ذلك التاريخ وتلك الأساطير لكان علينا أن نختلق بعضها لنحيا على ركيزة نجتمع حولها .أرى أن تاريخ الأرض العراقية العميق الموغل في عمق الزمان هو ركيزة البقاء له ويتناولنا دراسته وتعريف أجيالنا بالملاحم والأساطير التي ابتدعها الرواة والمدونون الأوائل قبل ظهور ملاحم وأساطير الحضارات الأخرى ، بل ينبغي تدريسها في المدارس بدءا من المستوى الابتدائي وحتى الدراسة الجامعية ،وقد استفادت شعوب أخرى من ملحمة كلكامش وتناولتها في فنون الأوبرا والمسرح والمؤلفات الموسيقية وأنجز فنانون عالميون من جنسيات مختلفة أفلام كارتون موجهة للصغار لتعريفهم بهذه الملحمة التي ناقشت معضلة الوجود والموت والحياة ، وفي اليونان المعاصرة كتب الروائي العظيم (نيكوس كازانتزاكي) كتبا منهجية للمدارس وعمل طوال سنوات على تبسيط نصوص الملاحم الإغريقية وتدوينها بلغة معاصرة لتلائم الأطفال في هذه المرحلة ، ولا تزال الأوديسة والإلياذة اللتان ترجمهما كازانتزاكي إلى اللغة اليونانية المعاصرة تدرسان في المراحل التعليمية كلها ،
*** طيب لنتحدث عن الرواية وما تحمله من توظيف .؟
أرى أن الرواية أمست اليوم الوريث الشرعي للأسطورة لقدرتها على توفير المحفزات اللازمة لإدامة شعلة التخييل البشري ودفعها نحو آفاق لم تكتشف بعد ومساعدتنا على تجاوز عوامل الكبح واليأس والإحباط التي يحفل بها عالمنا. لا أظن أن توظيف التراث وبخاصة في جوانبه التصوفية والعرفانية – موضوعة تنتمي للجدل المتواصل حول ثنائية التراث – المعاصرة، بل تمثل موقفا مختلفا خارج هذه الثنائية ، وثمة في المشهد الثقافي بعضُ فهمٍ قاصرٍ لتوظيف التراث الصوفي في النصوص والروايات المعاصرة بطريقة مقحمة أقرب للنزعة التزيينية دونما تمثّل حقيقي للكشوفات العرفانية عمليا وحياتيا على الصعيد الشخصي . لا أرى أي ضير في توظيف أي لون معرفي وجعله عنصراً فاعلا في العدّة المفاهيمية للكاتب ( الروائي بخاصة ) متى ما حاز ذلك اللون المعرفي على طاقة خلاقة لإدامة شعلة التوهج المعرفي ومغالبة انكفاء الروح البشرية وتجاوز محدوديات الزمان والمكان والبيئة، ويمكن الاستشهاد في هذا الصدد بنصوص الرومي التي صارت تعدّ جزءا أصيلا من الكلاسيكيات العالمية، ويصح الأمر ذاته على أعمال ابن عربي والنصوص المشرقية من أمثال ( باغا فادغيتا ) الهندية، وهنا لا مسوغ للحديث عن ( الحل المؤقت ) أو ( الحياة المعاصرة ) وكلما يشير إلى( زمنية ) النص؛ فالنصوص الصوفية والعرفانية هي بالضرورة نصوص لازمنية – نصوص تتجاوز المحدوديات المحلية وتنزع نحو ملامسة تخوم المطلق والسامي والجميل في الكون .
** تشيرين في إحدى حواراتك إلى أن فكرة تغيير الأمكنة لا تؤدي إلى الخلاص،باعتقادك هل وظف هذا الاعتقاد ضمن حدود النص القصصي والروائي لك بحيث أصبح المكان فضاء واسعا غير منحصر وانعكس على أبطالك ورؤيتهم للأمكنة
الأمكنة كلها سجون مقننة لأرواحنا نحن الذين لا نبتغي سوى التحليق بعيدا عن جحيمات العالم .. لطالما كان للأمكنة حضورها المهيمن في قصصي ورواياتي باعتبارها العنصر المعادل والمقابل لحركتنا في الزمان مقابل حركتنا ضمن فضاء الحلم والمخيلة ، أعتبر المكان أفقا حرا لا تحده الحدود الجغرافية والاكراهات السياسية والمواثل المادية ، لذا تجد مطلق شخصياتي – وليست النسائية حصرا؛ فأنا لا اشتغل في غيتو الموقف النسوي ومحدوديته -تحاول الإفلات من أسر الأمكنة عبر التخييل والحلم وابتكار التعلقات الواقعية والميتافيزيقية لتحقق نجاتها من ربقة المكان والزمان .خذ على سبيل المثال شخصية الشيخ قيدار ذي النزعة العرفانية في روايتي ( سيدات زحل ) وهو الذي قام برحلة روحية عبر العراق كله سيرا على قدميه ليكتشف عبرها نفسه ورغائبه وخطاياه وأحلامه وذاكرة المكان وأساطيره فلا يجد الخلاص بل ينتهي به الأمر إلى مواجهة فظة مع سلطة فاتكة ترتاب فيه وتحتجزه لزمن غير معلوم ،وعندما ينجو من هذا المصير لا يعود يأنس بمكان ما بل يمسي همه ومبتغاه العثور على قيمة افتقدها ونفتقدها في زمن تهاوي القيم وهيمنة سرديات تبرر الموت والقتل والتحارب ، وخلُص إلى الارتكان لمشروع معرفي يتمثل في حماية ذاكرة بغداد
*** تقولين ذاكرة بغداد ..؟
نعم المدينة التي تواشج تاريخها وحاضرها مع كوارث حياته ، فقام بجمع وشراء الكتب النادرة والمخطوطات المتعلقة ببغداد وما كتبه عشاقها عنها وسعى إلى الالتقاء بأناس ذوي توجهات عرفانية ليتشاركوا معه مهمة حماية الذاكرة عندما أصبحت الأمكنة معادية بمحدوديتها وتبدلاتها التراجيدية ، حتى استقر به المقام مؤقتا في دير شمال العراق مع صديقه وخلّه الروحي القس جبرائيل ، وصارا يحملان ذاكرة بغداد معهما أينما حلا وترحلا وكأنهما يحملان روح المدينة بديلا عن كينونتها المادية ومثولها الجريح في الحاضر.
** أينطبق هذا التوصيف على روايتك الأخيرة عشاق وفونوغراف وأزمنة
في روايتي الجديدة التي صدرت حديثا ( عشاق وفونوغراف وأزمنة) يتخذ المكان فضاءً واقعيا وميتافيزيقيا وتخييليا : الأمكنة تتعدد وتتعالق مع الأزمنة الممتدة ، وتحيا الشخصيات الرئيسية رجالا ونساء في محنة المكان والزمان وتجهد للافلات من أغلالها وبلوغ مراميها عبر تخيلات تارة أو عبر رحلات وهروب وانتحار ومواجهات أو باعتناق العشق أو اللوذ بالمعرفة والفن والعلوم ؛ فكأنها محكومة بالاختناق في محيطها الضاغط وأمكنتها المتضافرة مع سلطة القمع المهيمنة .أرى في الفن الروائي تجربة وجودية وحسية خارج سلطة المكان المحدود ، تجربة تغوص في أعماق الكاتب وتضيف له وتثريه ويتشارك هذا الثراء مع قارئه إذا نجح في توجيه البوصلة ، الفن الروائي ليس انعكاسا لواقع أو تمثيلا لرموز ودلالات يحفل بها ما يقع خارج ذواتنا ؛ إنه إنتاج لمعان ٍ كثيرة نتشاركها مع الوجود ونؤكدها عبر عملية الكتابة فتتكثف وتظهر كنسيج متقن محبوك من حيثيات الوجود ورغبات المرء وإخفاقاته وتشوقاته وأفكاره وخبراته المعرفية.