سيِّداتُ الحواسِ الخمس العنوانُ المُشكلُ وتساؤلاتُ البدايةِ (قراءة في عنوان رواية لم تصدر بعد)

خاص- ثقافات

*أحمد حنفي

(سيِّداتُ الحواسِ الخمس) رواية جديدة تصدر قريباً إن شاء الله للصديق والروائي الأردني الكبير جلال برجس، فبعد أن طالَعَنا بروايته (أفاعي النَّار) والفائزة بجائزة كتارا للرواية العربية، والتي كتبتُ مقالاً مختصراً حول شاعرية السَّرد في مقدمتها، ولم أخفِ وقتئذٍ إعجابي الشديد بلغته الموحية والمُعبِّرة وشاعريتِهِ التي وظَّفها دونما تعسُّفٍ أو استعراضٍ ينأى به عن روح السرد الروائي، لكنَّ ثمة ما أضمرته ولم أُصرِّح به حينها وهو أنَّ العنوان جاء عاديّاً – باعتبار العنوان نصاً مستقلاً وليس بتقليص دوره كإحدى عتبات النص الروائي – أي وبمعنى آخر النظر إلى العنوان كبيئةٍ نصيَّةٍ مستقلةٍ تماماً لها بناؤها التركيبي نحواً وصرفاً، كذا لها دلالتها في ضوء الاشتغال الدلالي لعلاماتها التي يجوز إعمال التأويل (الهيرمنيوطيقا) فيها على النحو الذي يؤكد أن العنوانَ له دور أكبر وأعم وأشمل من كونه عتبةً أوليَّةً للنصِّ الروائي.

بالقطع لا أريد لقضية (العنوان عتبة أم نص) أن تصيرَ قضيةً مركزيةً بالمقالِ، لكن تكفي الإشارة أن اعتبار العنوان عتبةً هو المدخل الفينومنولوجي (الظاهراتي) لعلاقة العنوان بمتن الرواية اعتماداً على الخبرة الحدسية، أي ما يمثله هذا العنوان في خبرتنا الواعية، وهو ما يقلل من دوره مقارنةً بالنظرة التأويلية (الهيرمينوطيقية) ذات البعد الشمولي والتي ترى في العنوان ما هو أبعد من ذلك بكثيرٍ باعتباره – كما ذكرت – بيئة نصيَّة مستقلة تسعى الهيرمنيوطيقا إلى تفسيرها بدلاً مِن وصفها أو إيضاحها بموضوعية، وذلك لارتباطها منذ بدايتها بالتجربة اللغوية. (أفاعي النَّار) ذات التركيب النحوي المكوَّن من خبر – حسب أشهر إعراب للعناوين بتقدير مبتدإٍ محذوفٍ تقديره هذه – ذلك الخبر يقعُ مضافاً، ومضافٍ إليه (النار) يوضح ماهية تلك الأفاعي أو تكوينها، وبالتالي صارت أمامنا استعارة تصريحية – حيثُ حُذِفَ المشبهُ (ألسنة مثلاً) وصُرِّحَ بالمشبه به (أفاعي)- ليمنحَ علامة النار دالاً جديداً؛ فهي إلى جانب ما تحملُ من دوالِ الحرق والدفء والنور والعذاب والزجر والبطش وما إلى تلك الدوال المرتبطة بتلك العلامة، صارت تحملُ دوالاً جديدة من قبيلِ الزحف والسُّمِّيَّة والفسوق (الخمس الفواسق) واللدغ وتبديل الجلد والمراوغة والاختباء والظهور في آن، إلى غير تلك الدوال المرتبطة بعلامة الأفاعي. والعلاقة ستظلُّ تبادليَّةً بين ركنيِّ التشبيه في منح كلٍّ منهما دواله للآخر مع الإبقاءِ على كامل رصيده من الدوال. وبالرغم من كلِّ ما سبق بقي العنوانُ تقليديّاً؛ ذلك أنَّ العلاقة بين الدَّالِ والمدلولِ للعلامتين اللغويتين المُشكِّلتين للعنوان تمَّت في إطارِ المرجع ولم تخرج عنه؛ حيثُ علاقة التشابه الحركية بين ألسنة النار والأفاعي من جهةٍ، وعلاقة التشابه في الأثر والنتيجة المتمثلة في الهلاك الناتج من الاقتراب من أحدهما من جهة ثانية – هاتان العلاقتان مثَّلتا مرجعاً منطقيّاً بين الأفاعي والنار، وبالتالي لم يحقق نص العنوان سوى انحرافاً دلاليّاً ولم يرقَ لمستوى الإزاحة الدلالية التي يصير فيها المدلول منقطع الصلة بمرجع الدال معياريّاً (لغوياً)، واصطلاحياً، وتاريخياً، ليُشكِّلَ إضافةً جديدةً كلِّيةً للمعنى تُضافُ إلى رصيده القديم. أمَّا عن (سيِّدات الحواسِ الخمسِ)، وهو حتى الآن نص عنواني لنص روائي لم أتطلع عليه بعد، أراه أكثر إيحاءً وأكثر إشكالاً من (أفاعي النار)، الأمر الذي يؤشِّرُ على أنَّ النص الروائي غنيٌّ بمحتواه وبمضامينه وبإيحاءاته وبعناصره السردية التي تُجيب على تساؤلات العنوان، ولكن أية تساؤلات أثارها لديَّ عنوان رواية برجس الجديدة؟ من الناحية النحوية، العنوان مكوَّن من خبر مضاف، ومضاف إليه، واسم عدد يقع نعتاً، الإشكالية تكمن في المنعوت (المعدود)، فهل الخمس نعتاً للسيداتِ أم نعتاً للحواس؟ من المعروف أنَّ العدد خمسة يخالفُ المعدود تذكيراً وتأنيثاً، كأن نقول: خمس سيدات وخمسة رجال، كذا نقول: خمس حواس وخمسة أصابع مثلاً، وتكون تلك القاعدة واجبةَ العملِ إذا سبق العددُ المعدودَ كما في الأمثلة السابقة، وتكونُ جائزةً إذا سبق المعدودُ العددَ، كأن نقول: كتب الأحاديث التسعة وكتب الأحاديث التسع، ويكون العدد هنا نعتاً للكتب. وقد ذكر الصبَّانُ في حاشيته، قال: “فلو قُدّم (يعني المعدود) وجعل اسم العدد صفة جاز إجراء القاعدة وتركها كما لو حذف” فهل الخمس في العنوان نعت للسيدات أم للحواس؟ وهل هنَّ خمس سيدات أم خمس حواس؟ المعروف أنَّ الحواسَ خمسٌ، السمع والبصر والشم والتذوق واللمس، ويتميَّز بعض الناس بالحدس أو ما اصطُلح على تسميته بالحاسة السادسة، فربما العدد هنا نعتاً للحواسِ، لنجد أنفسنا أمام معضلة نحوية تكمن في مخالفة النعت (الخمس) لمنعوته (الحواس) تذكيراً وتأنيثاً؛ فكلمة الحواس مفردها حاسة وكان الأوجب أن يكون العنوان (سيدات الحواس الخمسة) ليتوافق النعت مع منعوته من حيث التأنيث، وربما يكون برجس قد جوَّز تذكير النعت لأنَّ هناك من النحاة مَن يُعاملُ جمع التكسير معاملةَ المفرد جرياً على أمثلة مِن قبيل (هذه آثارٌ عظيمة)، (تلك كتبٌ مفيدة) والتي يخالف النعت فيها منعوته إفراداً وجمعاً فضلاً عن التذكير والتأنيث لا لشيء سوى أنهم تعاملوا مع جمع التكسير معاملة المفرد، ومن هنا جازت (الخمس) أن تكونَ نعتاً للحواسِ كما – وفي الوقت ذاته- جازت أن تكونَ نعتاً للسيدات.

ربما أراد برجس بهذا التركيب البنائي المُحيِّر لنص العنوان أن يجعلنا نتساءل منذ البداية، وأن يملأنا شغفاً قبل البدء في النص الروائي ذاته بحثاً عن الإجابة، وإلا لمَ لم يُسمِّ روايته (سيداتُ الخمسِ حواس) فنعرفُ أنَّ الحواس هي المعدود؟ لكنه بذلك يكون قد قتل شغفنا بالبحث، ويكون قد جعل من العدد أهمية أكبر من معدوده لصدارته، ولصار العنوان تقليدياً. وهو بذلك يُبيِّنُ خبرةً لغويةً، وحساسيةً في بناء جملته (نصه العنواني) بالشكل الذي يجبرك على التهامِ النص الروائي بحافز البحث عن إجابات فرضتها تساؤلات العنوان، وبرجس بذلك لم يخالف أهل اللغة، بل على العكس تماماً، فها هو الشيخ محيي الدين عبد الحميد، قال في حاشيته على الإنصاف: “وفي هذه الحال يتنازعك أصلان: أحدهما أصل العدد ومعدوده الذي بينّاه، وثانيهما أصل النعت ومنعوته وهذا يستلزم تأنيث النعت إذا كان منعوته مؤنثاً، وتذكير النعت إذا كان منعوته مذكراً وأنت بالخيار بين أن تستجيب للأصلين” ، وقد اختار برجس الأصلين معاً في مفارقةٍ لغويةٍ نادرة؛ ذلك كونه راعى أصل العدد ومعدوده فالعدد مذكر والمعدود مؤنث، كما راعى أصل النعت ومنعوته إذا عاملنا جمعَ التكسير معاملة المفرد كما سبق وأن بيَّنت. وثمة تساؤلات أُخرى من نوعيَّة مَن هؤلاء السيدات؟ وهل هنَّ خمسٌ؟ هل لكلِّ حاسة سيدة؟ أهنَّ عرَّافاتٌ، أم حارساتٌ، أم ساحراتٌ؟ وهل تلك الحواس هي عينها الحواس الخمس التي نعرفها أم تراها شيئاً آخر؟ … إلى آخر تلك التساؤلات والاحتمالات التي تستدعي الواحدة منهم الأخرى. لنخلصَ في النهاية إلى إدراك برجس لأهمية العنوان باعتباره بيئةً نصيَّةً مستقلةً عن النص الروائي تكون آليتها طلقاً صناعياً محفزاً لفعل القراءة، وها أنا ذا أتمنى أن يسعدني حظي في الحصول على الرواية لإشباع شغفي بالبحث عن إجابات لتساؤلات ذلك النص العنواني المشكل.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *