رواية اللجوء السوري في دول الجوار

 خاص- ثقافات

*جهاد الرنتيسي

تركت الانفجارات المتلاحقة للذاكرة السورية على مدى السنوات السبع الماضية سلسلة من الممهدات لتحولات في وعي واداء وتذوق الروائيين السوريين، ساهمت تراكماتها في اتساع حضور الرواية السورية في المشهد الروائي العربي، رغم محاولات الطمس المتعمد في بعض الأحيان والناجم عن طغيان السياسي على الثقافي في أحيان أخرى.

المؤشرات المتوفرة من هذه التحولات تحيلنا إلى عوامل تملي الحديث حول شظايا تحمل بعض الحريق السوري إلى القارئ العربي ولا يحول تبعثرها دون التقائها في سياقات تراكم المقدمات التي أدت إلى ما مرت وتمر به البلاد من عذاب يومي.

بين هذه العوامل اختيار الموضوع الذي يتمثل أسباب الحرب، إفرازاتها وانعكاساتها على راهن السوريين ومحيطهم وما هو أبعد من المحيط، وظلالها الممتدة إلى المدى المنظور من مستقبلهم.

لا يغيب عن هذا السياق الاشتغال على إنضاج الأدوات الفنية والتواصل الحسي مع الحدث بالشكل الذي يلائم الوجع الإنساني والجراح المفتوحة على المجهول.

وأظهرت روايات الروائيات والروائيين السوريين التي صدرت خلال السنوات السبع الماضية جرأة ليست مألوفة وتكاد أن تكون غير مسبوقة في التعامل مع التابوهات وتجلياتها.

في هذه المناخات ومع هذه العوامل وغيرها تكرس المشهد الروائي السوري المختلف ورموزه روزا ياسين حسن التي تحولت إلى علامة فارقة في رصدها وتعبيرها ونضوج أدواتها، وديمة نوس وسمر يزبك وغيرهن اللواتي راكمن تجاربهن على إيقاعات أحداث متغيرة، كما برز خالد خليفة وخليل صويلح وفواز حداد في قراءة التحولات التي تمر بها البلاد وناسها، وتلمس جان دوست وهيثم حسين عمق الألم الكردي.

تنذرنا تجارب الشتات واللجوء الراهنة في منطقتنا بصعوبة الإحاطة بشظايا الكارثة المبعثرة بعشوائية بعد امتداد السنة اللهب السوري إلى أرجاء الكوكب، لتواجه ديناميات تخصيب الرواية السورية التحدي الذي واجهه الروائي الفلسطيني والعراقي والكردي خلال لهاثهم للتغلب على مراوغة الزمن والجغرافيا مما تطلب من الروائيين السوريين والمشتغلين على التوثيق الفني ليوميات الجرح السوري التفاعل المختلف عن ما سبق والمناسب لسرعة الحدث وإمكانيات تسطيحه على شاشات الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي .

انفتاح الجرح السوري على عمقه الديمغرافي والجغرافي واتساع انزياحاته في جهات الأرض الأربع حوله إلى عذابات نتقاسمها جميعا ونحن نتلمس نارا استقر لهيبها بين أصابعنا وفي مسامات جلودنا.

 علينا أن نسلم أمام هذا الواقع بأن غياب حضور السوري ـ غير القابل للتجاهل ـ عن الرواية الأردنية واللبنانية والتركية التي ترصد الحياة في هذه البلاد يحولها إلى رواية مجتزأة وناقصة والمشتغل عليها إلى عاجز عن قراءة تفاصيل واقعه وتحولات مجتمعه التي بات السوريون فاعلا فيها  وجزء من تفاصيلها.

بين الأعمال الإبداعية الأردنية التي صدرت مؤخرا كانت لافتة للنظر قصة “الآس” للقاص كمال ميرزا ـ جاءت ضمن مجموعته عبودة الصادرة عن دار الفارابي في بيروت ـ التي تتحدث عن علاقة مصيرية بين الأردني والسوري ورواية “أنا مجرة” للروائي الواعد سيف عموص.

منذ رائعة “رجال في الشمس” لغسان كنفاني التي وضعت أساسا مختلفا لما يمكن أن نصفه بـ “أدب اللجوء” كانت روايات الشتات ومن بينها الرواية التي نتناولها المرايا الأكثر صدقا للتفاعل الإنساني لكن فيضان حالات اللجوء السوري عن ما يمكن أن نعتبره مألوفا في زمن الصراعات وتطور تناول التجارب الروائية العالمية والعربية للجوء فرض البحث عن أشكال مختلفة للتعاطي وسيبقى البحث مستمرا لأن مسار وتفاصيل ما حدث ويحدث أبقيا الخيال عاجزا عن اللحاق بهما .

يتخطى روائينا في روايته ظواهر الحضور الاجتماعي ـ الاقتصادي السوري في الحياة اليومية لمجتمعات اللجوء ـ ومن بينها مجتمعنا ـ إلى التراكمات اليومية التي تستقر في أعماق اللاجئ القادم من رحم الموت إلى الفراغ ليحرر النظرة من متاهات العبء على المقدرات والمنافسة على الوظيفة والتعاطف العابر المبني على النزعات الإنسانية أو النخوة العربية وإسقاطات المواقف السياسية المتضاربة في انحيازاتها لهذا الطرف أو ذاك من فرقاء النزاع.

لا تكتفي الرواية التي بين أيدينا بنقل صورة اللاجئ الينا فهي تلفت نظرنا إلى صورتنا في عيون اللاجئ وهي صورة مختلفة بالتأكيد عن نظرتنا إلى أنفسنا وقد تكون أكثر دقة إذا سلمنا بقدرة القادمين على المقارنة واستسلام المقيمين لإغراءات النمط .

رحلة اكتشاف التفاصيل الدقيقة في الصورة غير القابلة للتنميط رغم اعتيادنا عليها لا تقف عند هذه المحطة فهي تمر بما يشبه المقارنة بين نظرتين إلى المكان إحداهما بعين زائره والأخرى بعين اللاجئ اليه.

علاقة اللاجئ مع ذاكرته واحدة من مكونات بنيته السيكيولوجية حيث نجده مشدودا إلى زمنين أحدهما رتيب والآخر صاخب يساهمان في تكوين النظرة إلى المخيم الذي يراوح بين الملاذ ومعسكر الاعتقال وتلتبس صورة الخيمة فيه لتلتقي المتناقضات في عين ساكنها.

يندرج في سياق النظرة الملتبسة أيضا حضور المنظمات الإنسانية ووفود المانحين المدفوعين بحس إنساني على الأغلب لكن هذا الحس يبقى دون القدرة على التقاط التفاعلات الداخلية للاجئ.

ومع تداخل صراعات الأزمنة في اللحظة المعاشة يتحول النمط إلى كتلة من الرصاص ينوء اللاجئ تحت ثقلها في ليله و نهاره ويحلم بإلقائها خلسة عند أول مفترق الطرق.

تعبر عن هذا التوتر فتاة منتصف العقد الثاني التي لا يغادرها الشك في تجاوزها مرحلة الطفولة، تلد وحدتها أخا في التخييم والهروب إلى مجهول آخر، تمارس عليه أمومتها دون أن تدري، وتتطور شخصيتها دراميا في حضوره وغيابه، بين التماسك والهشاشة، التمرد، والصلابة ، والوهن.

علمتنا تجارب المنطقة منذ وصول الأرمن إلى بلادنا واحتفاظهم بهويتهم رغم اندماجهم الظاهري في مجتمعاتنا الهشة، مرورًا بالفلسطينيين والعراقيين والكرد الهاربين من خضوع جغرافيا البلاد لظلمة تاريخها وقسوة حاضرها أن المنافي لا تكف عن التوالد وأن فقدان الجذور يمسّ عصب التوازن، لكن لاجئتنا الصغيرة عجزت عن مجاراة التكاثر الأميبي للجوء والاستمرار في دوامة حمل عامود خيمتها بحثا عن خلاص لحظي واختارت رحيلها الأخير.

يطرح سياق الرواية سؤالا قد يكون تقليديا لكنه يبقى قابلا للاجتهاد لانه لم يجد الإجابة الشافية رغم كل ما كتب عنه من دراسات وهو صعوبة الاندماج مع الآخر الغربي حيث تواجه البطلة صعوبة اجتياز حواجز وجدران الوحدة رغم ما وفره لها بلد اللجوء الأخير ومن خلال السياق أيضا يتضح أن السبب في ذلك حالة الاضطراب التي سببتها الصدمات المتلاحقة في محطات اللجوء السابقة والانجراف اللارادي إلى زمن مضى.

تظهر الرواية محاولة روائينا الاقتصاد في الكلمات والابتعاد عن الإطالة وهي محاولة محمودة لتجنب فائض اللغة لكن التمادي فيه يؤدي أحيانا إلى الاستغناء عن تفاصيل ضرورية لإكمال الصورة وتعميق العلاقة بين القارئ وأحداث الرواية وشخوصها ويقلل من متعة القراءة.

يمكن تخيل المكان في الرواية لكن الروائي أبقاه عائما الامر الذي يلجأ اليه روائيون في بعض الاحيان ربما بقصد تعميم الحالة او تجنب مسؤولية ما لكن هذه القصدية تفقد الفضاء الروائي بعض حميميته إذا لم يتم التعامل معها بحرفية عالية.

وكان يمكن إنضاج الأصوات الثلاثة المكونة للرواية وتطوير قدرتها دون تحميلها ما يفوق طاقتها على الحمل لتكون أكثر إقناعا وتعبيرًا عن جوهر الشخصيات والأحداث.

نحن أمام عمل استطاع تلمس جوانب القصور في الرواية الأردنية وهي كثيرة، وسلط الضوء على حاجة الفهم الأعمق لمتغيرات جوهر التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في بلادنا، بعد الهزة العميقة التي أحدثها اللجوء السوري، الذي أضيف إلى هزات أخرى على مدى عقود مضت، فاقت آثارها القدرات الذاتية، كان لها دورا في إدامة توترنا، وتقليص استقرارنا النفسي إلى حدوده الدنيا، والحد من سلامنا مع العالم الذي نعيش فيه.

 أخطأت لاجئتنا الصغيرة، الشخصية الرئيسية في الرواية حين ظنت بأنها مجرة، فهي الامتداد “العفوي ـ التلقائي” لأفلاك روحنا ، مصيرها جرس إنذار مصائرنا ، لا يمكن أن تكون حالة قائمة بذاتها، بعيدة عن إحباطات عوالمنا، قصورنا عن التعايش، غياب توازننا، وعجز الآخر الغربي عن تكفير ذنوب يستمر في اقترافها، ونتلذذ في لعق دمنا عن مبرده  .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

  • قدمت هذه الورقة خلال ندوة إشهار رواية “أنا مجرة” في المكتبة الوطنية بعمّان

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *