*د.شهلا العجيلي
تخفت، بمرور الزمن، حدّة التجارب السايكولوجيّة المتكرّرة للنساء، من مثل تفاعلاتهنّ العاطفيّة مع خبراتهنّ المميّزة كالولادة، أو الاستجابة للعداء الاجتماعيّ بالعزلة أوالتطرّف، وتتحوّل ردود الفعل تجاه هذه التجارب من الغضب إلى تبنّي استراتيجيّة أخرى في الكتابة، منزاحة عن ردّ الفعل المباشر، الذي امتلأت به المدوّنة النسويّة. لقد تنبّأت (فرجينيا وولف) بهذه النتيجة منذ مطلع القرن العشرين، إذ رأت أنّ كاتبات المستقبل «سيبتعدن عن الاستغراق الشديد في الحقائق، سينظرن إلى ما هو أبعد من العلاقات الشخصيّة والسياسيّة، إلى الإشكالات الأوسع التي يحاول الشاعر حلّها، إلى مصيرنا ومعنى حياتنا»!
تتكامل الأجيال النسائيّة كتابة، وذلك لمحدوديّة التجربةِ النسويّة بالنسبة لتجربة الرجل، وقد عزّز كلّ من المحدوديّةِ والتكاملِ، الهويّةَ الجماعيّة للكاتبات، حتّى أصبحت الكتابة في المرحلة الأخيرة، التي أسمّيها مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة، نسخة معدّلة من كتابة الكاتبات الأوَل، تتقاطع معها بخطوط شفيفة كالفرق بين بنت اليوم وجدّتها الرابعة مثلاً. إنّ الأعمال الفريدة اليوم، والتي دخلت مرحلة الخصوصيّة الثقافيّة لا تنبتّ عن جذورها بشكل أو بآخر، كما لا تنبتّ عن واقعها، وحيث أنّ الفنّ نشاط اجتماعيّ، فهو «شيء مستحيل من دون الإلمام بالواقع… فالفنّ، إذ يهدف لصياغة الإنسان وصياغة موقفه إزاء الواقع، فإنّه يعكس بالضرورة ظواهر الحياة بالارتباط مع علاقات الناس بهذه الظواهر. ويدرك الفنّ هذه العلاقات ذاتها، محاولاً كشف تلك العلاقات الخاصّة لفئة ما… ومحاولاً الكشف عن جوهرها ومنابعها واتجاه تطوّرها».
إنّ نصوص الخصوصيّة الثقافيّة النسويّة ليست ولادات منفردة منعزلة، بل هي حصيلة سنوات طويلة من التفكير المشترك للناس، ومن تجارب النساء، «حيث تقف خبرة المجموع وراء الصوت المنفرد».
يعدّ التوق الفرديّ أحد أهمّ العوامل التي تصنع التجاوز، وتستخدم (وولف) المجاز لتطلق مقولتها الشهيرة: «نحن كإمرأة»، مع أنّ ذلك ليس دليلاً على تحرّرها من التوق الفرديّ، لكنّ التفكير عبر أمّهاتها منحها هويّتها الجماعيّة الأولى، فتوسيع الـ «نحن» في عالم كاتبات الماضي والمستقبل هو الذي نما في نهاية المطاف ليعبّر عن كلّ ضحايا الاغتراب والاضطهاد».
يمكن القول إنّ التوق الفرديّ استطاع أن يخلق كتابة نسائيّة مختلفة عن كتابة الرجل من جهة، وعن الكتابة النسويّة التي تعتمد التقاليد الأدبيّة المتوارثة من جهة أخرى، إذ دفع التوق الفرديّ كتابة النساء في بعضها إلى تجاوز الثيمات النسويّة الرئيسية في الكتابة، مثل اللعب على وتر الجسد، والمساواة مع الرجل، وفتح ملفّات التحرّش والاغتصاب، والتصريح بالنموذج المضطهد، وتكريس شعريّة اللغة القائمة على علاقة اللغة باللغة.
لكنّ ذلك كلّه عاد بشكل عنيف على غير ما توقّعت وولف، وذلك مع النسويّات الإسلاميّات الرافضات، اللواتي حوّلن تجاربهنّ الشخصيّة، وحياتهنّ في مجتمعات غير ودودة تجاه المرأة إلى عنف ثقافيّ، إذ حفرن في جذور مجتمعاتهنّ، وشرّحن المكوّنات الرئيسة فيها، ووجّهن رصاصهنّ تجاه الدين، العنصر الأشدّ تأثيراً، فخلقن واقعاً ثقافيّاً جديداً تحوّلن فيه من ضحايا إلى بطلات، بالكتابة العنيفة والأداء الثقافيّ العنيد، وذلك حين خروجهنّ من بنيتهنّ الاجتماعيّة الراديكاليّة إلى بنى ليبراليّة، كما فعلت الصوماليّة أيان حرسي علي (مقديشو- 1969). والتي كان منطلقها التوق الفرديّ المبنيّ على تجارب شخصيّة عنيفة، إنّها تعاملت مع الدين الإسلاميّ بوصفه حالة ثابتة، في حين أنّه حادثة ثقافيّة، وله نسخ متعدّدة، ولعلّ سوء حظّها جعلها تتنقّل بين هذه النسخ الراديكاليّة، أو التي أضفت عليها الثقافات سطوتها، وأبعدتها عن الجوهر، وذلك ما يسمّيه الدكتور فهمي جدعان (الإسلام الشعبي والأسطوري ) فأنتجت كتابها (الكافرة) 2006، وهو سيرة ذاتيّة، وقبله فيلمها القصير (الخضوع) (2004)، وهو فيلم عنيف بتقنيّات فنيّة متقدّمة، والذي بسببه قتل مخرجه الهولنديّ ثيو فان جوغ في العام 2004، ثيو نفسه الذي قال لها وهو ينساق وراء توقها الفرديّ: «أنا لست هنا من أجل أن أساعدك على علاج صدمات طفولتك!».
تصدر أيان حرسي علي عن تاريخ شخصيّ ملتبس، عن قسوة أبيها السياسيّ المعارض للنظام في الصومال، والذي بسببه عاشت بين الصومال والسعوديّة وكينيا، وعن أمّها التي بقيت بلا رجل، بسب هجره المنزل واهتمامه بالسياسة، واتخاذه زوجات أربع، ممّا حوّلها من امرأة خانعة إلى امرأة قاسية تضرب ابنتها كلّ حين، ثمّ عن تجربة الختان في الصومال، ثمّ عن إرسالها إلى كندا من قبل أبيها للزواج بقريب لها، وفي منتصف الرحلة، في فرانكفورت، غيّرت مسارها إلى هولندا، وهناك زوّرت وثائقها، وحصلت على اللجوء، ومضت في تعليمها، واهتمّت بقضايا الاضطهاد الذكوريّ للنساء المهاجرات، وعملت في إحدى مؤسسات حزب العمل، فانضمّت إليه، واشتهرت بنقدها الراديكاليّ للإسلام والمسلمين في هولندا، ممّا أثار عداء الجالية المسلمة لها، ولم يعد ذلك من مصلحة الحزب، فتحوّلت إلى الحزب الليبرالي، وأصبحت نائباً في البرلمان، ثمّ استقالت بعد انكشاف تزوير أوراق هجرتها، وذهبت إلى أمريكا.
تنكر أيان حرسي علي التهم الموجّهة لها بأنّ مواقفها بوصفها نسويّة رافضة جاءت بسبب تجارب شخصيّة، كونها ملوّنة، ومختونة، وأباها زوّجها قسراً، فتقول: «لا أعتقد أنّ ختاني أثّر عليّ أدنى تأثير. أحبّ أن يُحكم عليّ بدءاً من سلامة أدلّتي وليس وفق موقعي على سلّم العذاب»، وتقول «إنّ فكرتي المركزيّة هي أنّ الدين الإسلاميّ والثقافة الإسلاميّة معاديان للنساء»، ويشير جدعان إلى أنّها تزيّن كلامها بأقوال سبينوزا، وبرتراند رسل، وكارل بوبر، ونوربير إيليّا، لكنّه يجد أنّها لم تكن ملمّة بالمضامين والأسس الأنطولوجيّة والميتافيزيقيّة لجملة من المسائل الفلسفيّة، أي أنّه بالمجمل فكر تلفيقيّ، إذ تتناول رأس الخيط، وتبني عليه، وهذا هو التوق الفرديّ الذي يجعل الأفراد غير موضوعيين، ويصلح للخطاب الفنيّ، الذي يعنى بالذات، لا بالفكر، وهذا لا يعني أنّنا نقلّل من شأن المعاناة الفرديّة، والتجارب القاسية مثل الختان، وزنا المحارم، والرجم، والزواج برجال لا نعرفهم. .. هذا كلّه شخصيّ، لكنّه في الوقت ذاته مجتمعيّ معقّد، يصنع الأفراد المتطرّفين، والجماعات المتطرّفة على حدّ سواء، وهنا تشير حرسي في أحد لقاءاتها المصوّرة إلى أنّ رفض معركة الأفكار يستدعي القوّة العسكريّة، وبهذا المنطق، فإنّ داعش هي الفائزة.
تستقطب هذه المواقف الغرب الأوربيّ، وبدرجة أكبر أمريكا، التي تستعمل هؤلاء (الأبطال/ البطلات) في أيّ مخطط آنيّ أو مستقبليّ، وتحت أيّ غطاء: دعم الليبراليّة، الســـلام، التحرير… عند وصولها إلى أمريكــــا عملت أيان حرسي علي في American Enterprise Institute (AEI)، وهو أحد أهم مكاتب التخطيط وتقديم المشورة للرئيس الأمريكي جورج بوش، ثمّ زميلة في كلية جون ف. كينيدي للعلوم الحكومية في جامعة هارفارد، وهي عضو في مشروع مستقبل الدبلوماسية في مركز بيلفر، حصلت على الجنسية الأمريكية في العام 2013.
_________
*القدس العربي