لا فارق بين المدن الكبيرة في العالم من ناحية تلوث الهواء، فكلها تعاني من ارتفاع مخيف في نسب الغازات الناتجة من احتراق وقود محركات وسائل النقل وبخاصة الديزل. لا فارق كبيراً بين مدينتي برشلونة ونيودلهي، فالناس فيها يتنفسون سموماً مخلوطة بالهواء، تقلل أعمارهم وتُمرض كثيرين منهم… ذلك ما خرج به البرنامج التلفزيوني السويدي «حتى النفس الأخير» الذي يعولم بحثه ولا يركز على التلوث الحاصل في المدن غير الأوروبية فحسب، بل على العكس يبدأ من برشلونة التي يظن الناس أنهم يتنشقون هواء عليلاً فيها، فيما الحقيقة تقول عكس ذلك.
وفي ألمانيا تختنق المدن بسبب تواطؤ السياسيين مع شركات إنتاج السيارات، فيما تظهر الهند كمثال على ما تعانيه مدن العالم الثالث من تلوث منفلت غير مسيطر عليه، ما يدفع بعض المرضى ومنظمات مدنية للعب دور الرقيب بدلاً من الحكومات والمؤسسات الصحية والبيئية.
في برشلونة ترافق يلينا سميث فريق البرنامج إلى الجبل المحيط بها. ومن هناك تشير إلى غيمة كبيرة تغطي ظلالها ملعب أولمبيك. «هذه ليست غيمة عادية بل هي تجمع للهواء الثقيل الناتج من حركة الطيران القريبة منه». مرض ابنها الصغير كان سبباً قوياً لانتقالها من وسط المدينة إلى التلال العالية المحيطة بها. حالته كما ظهر أثناء زيارة البرنامج إحدى مستشفيات المدينة ليست نادرة. فهو واحد من آلاف الأطفال الذين يعانون من مشاكل في التنفس بسبب السموم التي تنفثها عوادم وسائل المواصلات التقليدية إلى الخارج.
الطبيب المشرف على العلاج لم يتوقف عند الظاهرة البيّنة التي تحيل كثيراً من مشاكل التنفس على رداءة نوعية الهواء، بل يذهب إلى أبعد من ذلك حين ينوّه إلى دراسات تربط بين التلوث الشديد في كبريات المدن وبين تراجع وظائف أدمغة الأطفال المولودين فيها.
يعتبر البروفسور جوردي سونير صحة تلك الدراسات كارثة تهدد مستقبل الأجيال المقبلة من البشرية، ولا يحيل ذلك على تأخر معرفتها. «كثير من الدراسات دقّت جرس الخطر منذ وقت مبكر، لكن الإجراءات الحكومية كانت بطيئة لربطها إيجابياً بين استخدام الديزل وبين تقليل أخطار الاحتباس الحراري معتمدين على قناعة علماء اعتبروا للأسف الديزل أكثر رحمة بالبيئة من بقية المحروقات لكنهم تجاهلوا تأثيراته في الإنسان وبخاصة الأطفال».
في ألمانيا يقابل البرنامج الدكتور أكسيل فريدريش الملقب بـ «مطارد العوادم»، والذي يعود الفضل له في كشف الفضيحة الأخيرة لشركة «فولكسفاغن» للسيارات. يتحفظ العالِم على التسمية: «أنا لست مطارداً للعودام بل للمتلاعبين والغشاشين». أثناء تركيبه أجهزة خاصة لفحص نسبة تسريب العودام للغازات المتحررة من احتراق الديزل يشرح للبرنامج فكرته: «النتائج المختبرية التي تعلنها شركات صناعة السيارات لا تتطابق مع الواقع، لهذا أركب بنفسي أجهزة القياس الحساسة وأقيس بها النسب على الطرق السريعة».
الأرقام التي يذكرها لحجم التلوث الناتج من استخدام الديزل وبقية المحروقات مخيفة وتتجاوز آلاف المرات النسب المقبولة دولياً. مدينة دوسلدورف الألمانية مترع الانبعاثات السامة للديزل ويسعى الخبير المتطوع فريدريتش إلى الضغط على مسؤوليها وسياسيها من أجل التخفيف من النسب غير المقبولة إطلاقاً.
السياسيون يراوغون مراضاة لشركات صناعة السيارات العملاقة والناشطون ينجحون في تقديم إدارة البلدية إلى المحاكم لحسم الخلاف بينهما. يفتخر النشطاء البيئيون بكسبهم الكثير من القضايا، لكنهم غير راضين تماماً لمعرفتهم بقوة نفوذ الشركات وتأثيرها في قرارات السياسيين، لهذا يسعون إلى تحويل موضوع تلوث الهواء إلى مطلب شعبي ربما ضغطه يُغيّر الواقع المخيف لمدن ألمانية تموت اختناقاً.
الحال مثله تقريباً في نيودلهي المدينة الأكثر تلوثاً في العالم، وحالة الشابة الهندية غانيش كومار شائعة. رئتاها تعملان بنصف قدراتها الطبيعية ومؤشر تحسنها عكسي ما يزيد من احتمال موتها مبكراً وفق الطبيب المختص فأنه يتوقع موتها في سن الخمسين على أحسن تقدير. كل الفحوصات تحيل سبب مرضها على تلوث المدينة التي ولدت فيها ولا تعمل إدارتها ولا الحكومة شيئاً للحد من المشكلة التي صارت تهدد حياة الملايين مثلها، لهذا بادرت الشابة (24 سنة) للنزول إلى الشوارع وقياس نسبة الغازات المتحررة من السيارات بنفسها لأنها لم تعد تثق بشركات مراقبة صلاحية السيارات «الرشوة منتشرة بين موظفي فحص عوادم السيارات وغالبيتهم من الفقراء. بمبلغ بسيط تدفعه لهم يمكنك الحصول وفي لحظات على شهادة صحة تطابق نسب تسريبات سيارتك مع النسب المقررة دولياً؟!».
ولكن، كم ستتحمل الشابة الهندية المكوث في الشوارع؟ هذا السؤال يحيل البرنامج على علماء بيئة اعتبروا موت كبريات مدن العالم اختناقاً احتمالاً واقعياً إذا استمرت البشرية في السكوت عما يجري.
___
*الحياة