وجوه الحب الثلاثون..الحبُّ كالزمن.. لا ينقسمُ ولا يُقاس

*علي حسين

أراد له والده أن يصبح محامياً، في الوقت الذي تمنت فيه  والدته  أن يدخل ابنها سلك الرهبان ، كانت امرأة : ” حنون، قريبة على قلبي، وكانت أعجب كائن عرفته في حياتي، بوسعي رؤية وجهها الآن، على غاية الرقة ،  وقد غدا أكثر جمالاً “. لم يذكر جبران خليل جبران المولود  في السادس من كانون الثاني عام 1883  ، من أمه شيئاً سوى طريقتها في تعليمه الحب: ” كانت والدتي تدربني على حب الآخرين ، لقد حررتني من ذاتي”.

وقد مارست الام  “كاملة رحمة”، تاثيراً كبيراً على ابنها، فتعلم اللغة العربية  بفضلها، وعندما انتبهت الى ميوله الفنية، أهدته البوماً مصوراً عن ليوناردو دافينشي، وقد وصف جبران فيما بعد هذه الهدية في رسالة كتبها لأمه وهو في المهجر: ” لن انسى رسوم ليوناردو دافنشي، فقد كان تأثيرها مشابهاً لتأثير البوصلة على مركب تائه في كنف الضباب”.
وللتعبير عن تأثره العميق بأمه، نجده يكتب في كتابه الأجنحة المتكسرة  :  ” أن اعظم ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة الأم، وأجمل مناداة هي: يا أمي ، كلمة صغيرة كبيرة مملؤة بالأمل والحب، وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة “.
وبعد ذلك نراه يكتب للمرأة التي أحبها  ماري هاسكال : ” أنت وأنا، واحدنا أم للآخر، وأحس في نفسي بعض الأمومة نحوك، ولاشك أنك تشعرين انت أيضاً، ببعض الأمومة نحوي “ويخبرني زيادة أنه “يرى أمه مجسدةً في كل امرأة أحبها”.
ويكتب جبران خليل جبران مقالة عن الروائي الانكليزي د.ه. لورنس  ومدى تأثير  امه على اعماله الروائية : “أمه التي ماتت كانت في حقيقة الأمر دعامة حياته، هي التي احبها، وقد واجه كلاهما الحياة معاً، والآن وقد ذهبت، وستظل وراءه دائماً هذه الفجوة في الحياة، انه في حاجة الى انسان آخر يقدم له العون من تلقاء نفسه، ويشد أزره بمحض رغبته، للأشياء الأقل شأناً بدأ يدعها تذهب عنه، من فرط خشيته من ذلك الشيء الكبير، ذلك الزلل نحو الموت في اعقاب رحيل محبوبته”.
هكذا كان جبران، فحبّه لأمه لم يمت برحيلها، لأنه كان دائماً يلتقي بنساء كل منهن تمثل جانباً من الجوانب التي كانت تعنيها له أمه، ، فقد كان يبحث في النساء، ولهذا كانت معظم النساء اللواتي ارتبط معهن بعلاقات حب يكبرنه سناً.
• سلطانة ثابت أول امرأة يتعرف عليها كانت تكبره بخمسة عشر عاماً
• ماري هاسكل التي عاش معها أجمل قصة حب، تكبره بعشر سنوات
• ماري خوري التي كانت ملامحها تشبه ملامح أمه تكبره بتسع سنوات
• مي زيادة التي لم تحب رجلاً غيره كانت تكبره بخمس سنوات
ونجده  في معظم رسائله يخاطب ماري هاسكال بقوله: هكذا أنت أم هذا الكئيب بشكل من الأشكال”، ويكتب الى ماري خوري: “يداك الالهيتان وهبتاني الحياة الفضلى” ويصف حبه لسلطانة ثابت: “لقد تمسكت بأذيالك، كطفل يلاحق أمه”، وفي إحدى رسائله الى مي زيادة يخاطبها: يا أمي الحسناء، ذهب الربيع وجاء الصيف ومحبتي تتدرج من شغف، إلى نوع من تلك العبادة الخرساء التي يشعر بها الصبي اليتيم نحو أمه”.
وقد كانت ماري هاسكال تأمل أن يتزوجها جبران وتكتب في يومياتها:  “رجالات هذا العصر الذين أتوا بباهر الأعمال جميعهم متزوجون، إلا أن جبران، على ما اعتقد لم يحقق شخصيته كفاية التحقيق بعد، فيوم يتم له هذا سيظفر بالحياة حينئذ ربما يفكر بالزواج، فالحب والاستمرار فيه، مع صرف النظر نهائياً عن الزواج، ينطوي على صعوبة استحسنت أن أصارحه بها على الفور”.
************
السير على خطى نيتشه
في تلك السنوات التي تعرف فيها جبران خليل جبران على ماري هاكسل، كان قد تأثر بالفيلسوف الألماني نيتشه، وظل  يردد أمام ماري عبارة نيتشه الشهيرة: ” الحب ابرز مافي حياة المرأة، وإنما مجدها وشرفها يدفعانها الى أن تمثل الدور الأول في الحب بالزواج، وأن تهب كيانها كله جسداً وروحاً للرجل الذي تصطفيه زوجاً لها، انها تفتش عن سعادتها في الانسلاخ عن إرادتها الخاصة”.
وكان نيتشه يعتبر الزواج غباوة تفصح عن جهل بحقائق النفس البشرية: ” إنه تحكم اللذة البائسة في روح الزوجين، انه ذلك الدنس يتمرغان في أوحاله، انه ذلك الخواء الروحي الذي يجمع بينهما، لكن جهلهما يجعلهما يريان فيه الرباط المقدس الذي عقدته السماء بينهما”.
ونعرف من سيرة نيتشه، أنه لم يجرب الزواج، لكنه حاول اكثر من مرة أن يستسلم لهذه “الكذبة الصغيرة المهندمة”، ونقرأ في سيرة حياته، كان امامه الكثير من المرشحات للارتباط به، إلا أن شخصيته النزقة أرادت أن تمارس تكتيكاً شديداً في العلاقة مع المرأة، فهو يرى أن علينا أن لانحذف الحب من حياتنا بشرط أن لانعمقه بالزواج: “ما الحب إن لم يكن أن نتفهم أن شخصاً ما يعيش ويتصرف ويشعر بطريقة مختلفة عن طريقتنا  ومتعارضة معها، ولكي يوحّد الحب الأضداد، لاينبغي له أن يلغيها أو ينكرها “. – نيتشه العلم المرح – .
وكان جبران يهتم كثيراً بآراء الفيلسوف الالماني، حيث اعتبر الزواج أمراً يورث الخوف  والتعاسة. كان جبران في العشرين من عمره، حين سيطرت عليه افكار نيتشه الى جانب اعجابه بالشاعر الانكليزي كولردج الذي ذاق مرارة الفشل في الزواج، ومعاناة الارتباط بامرأة لا تفهم حياة الشاعر الداخلية، ويكتب جبران خليل جبران رأيه في الزواج في احدى رسائله الى ماري هاسكال: “ترين أن أمرأة تتدفق حياة ونضارة وهي في سن الخامسة والعشرين، ثم تتزوج رجلاً مليئاً بالحيوية والجاذبية أيضاً، ولما تلتقين بهما بعد خمس سنوات ترين المرأة وقد ذبلت جاذبيتها، لاجسدياً، بل كيان وحياة”.
وعلى الرغم من علاقاته المتعددة بالنساء، إلا أن جبران كان يفتقد للمرأة الوحيدة التي بإمكانها أن تغنيه عن كل النساء، امرأة  تكون حبيبة وليست زوجة، ولهذا نجد مثل هذه العبارات في كتابه النبي: “أحبوا بعضكم بعضاً، ولكن لاتقيدوا المحبة بالقيود، بل لتكن المحبة بحراً متموجاً بين شواطئ نفوسكم. ليملأ كل واحد منكم كأس رفيقه، ولكن لاتشربوا من كأس واحدة. قفوا معاً، ولكن لايقرب أحدكم من الآخر كثيراً، لأن عموديّ الهيكل يقفان منفصلين”.
ويكتب في  “المواكب”:
والحب إن قادت الأجسام موكبه
إلى الفراش من الأغراض ينتحر
والحب في الروح  لا في الجسم نعرفه  كالخمر للوحي  لا للسكر ينعصرُ.
************

البحث عن حنان الام
كانت في الثلاثين  من عمرها حين أربكت الشاب البالغ من العمر عشرين عاماً، عندما التقاها في المعرض التشكيلي الذي أقامه لرسومه، كانت تطيل النظر باللوحات، وجهها كان مشرقاً وعيناها الزرقاوان تشعان ببريق لامع  ، تجرأ على الاقتراب منها وهو يقول:
• هل تود سيدتي أن اشرح لها معاني بعض اللوحات ؟
– بكل سرور  تجيبه ماري هاسكال، دون أن تعرف من هو ثم تضيف: صحيح أنني من عشاق الفن، غير أنني لست فنانة. هل أنت فنان ؟
• لي الشرف أن أكون فناناً
– هل تعرف من هو مبدع هذه اللوحات
• إنه أنا!
• فوجئت ماري هاسكال، ونظرت الى الشاب الأسمر القصير القامة الذي كان يبدو عليه الخجل وهو يتحدث معها.
– تبدو فتى موهوباً، قل لي، لِمَ كل وجوه النساء هذه تتكرر في لوحاتك ؟
• إنها وجه أمي حبي الأول والأخير
ترك اللقاء مع ماري هاسكال أثره في جبران، الذي نراه يكتب في يومياته: “ها هي اول امرأة مختلفة التقي بها، كانت تحاول الاصغاء إلى ما في ذاتي ، وتحثني على الكلام كمن يحفر في قرارة نفسه”.
بعد أيام يتلقى دعوة لتناول الشاي في منزل ماري، وطلبت منه أن يعرض لوحاته في المدرسة التي تعمل بها، ثم راحت لقاءاتهما تتكرر، بدأ جبران يطلعها على تجاربه الأولى في الكتابة، فاقترحت عليه أن ينشرها في احدى الصحف، فظهرت له مقالة بعنوان “رؤيا” يتحدث فيها عن معاناة القلب البشري الذي يعاني من أسر التقاليد.
في عام 1904 تقترح ماري على جبران أن تساعده في دراسة الرسم بباريس، وأن تتحمل هي نفقات الدراسة، وبعد عام يحطّ الرحال في فرنسا ويكتب لماري هاسكال: “آمل أن تطول بي الأيام، فأتمكن من انجاز ما يستحق أن اقدمه لك انت التي تقدمين لي الكثير، وآمل أيضاً أن يأتي اليوم الذي يمكنني القول فيه ها إني صرت فناناً بفضل ماري هاسكال”.
ويكتب الى شقيقته: “إن وجودي في الحياة مرتبط بحضور ملاك يشبه إمراة يقودني نحو مستقبل زاهر ويمهّد لي الطريق نحو النجاح”.
واثناء وجوده في باريس تبادل معها عشرات الرسائل، ونكتشف أن شرارة الحب قد اتقدت بين الاثنين. فيكتب لها: “حين تطل ساعات الكدر، أطالع رسائلك ياماري، وعندما يلف الضباب الـ (أنا) اخذ من العلبة الصغيرة رسالتين أو ثلاثاً وأعيد قراءتها، فرسائل تذكرني بذاتي الحقيقية، وتجعلني أتخطى كل ما ليس سامياً وجميلاً في الحياة “.
وفي يومياتها كتبت ماري هاسكال: “أفكر مراراً أني اسمع همسات الكائن الذي يرشدك وهو يخاطبني بشأنك “فأجابها برسالة “لقد اصبحت قدري”  فتكتب اليه: “أنت الذي أجده دائماً كلما انطويت على نفسي، فأنت لن تتسلل من حول قلبي، اكثر ما يستطيع سواري التسلل من معصمي”.
عندما احتفل مع ماري بعيد ميلاده السابع والعشرين، همس لها بأن تقبله زوجاً، كانت ماري في السابعة والثلاثين من عمرها، سبق لها وأن رفضت العديد من عروض الزواج، فقبلت عرضه فوراً. لكن خطبتهما لم تدمْ طويلاً ،  إذ إن ماري كانت تتألم من فارق السنِّ بينهما، وكانت تعتقد بأن زواجهما سيؤذي مساره كفنان وكاتب. ونجده يكتب لها: “سأحبك حتى الأبدية. فقد كنت أحبك قبل أن نلتقي كبشريَيْن من لحم ودم بزمن طويل. عرفت ذلك حين رأيتك للمرة الأولى. كان ذلك هو القَدَر. أنتِ وأنا قريبان؛ ففي الجوهر نحن متشابهان. أريدك أن تتذكري هذا دائماً. أنت أعزُّ شخص على قلبي في هذا العالم. وهذه القربى، هذه الحميمية في كياننا الروحي، لن تتغير، حتى وإن اتفق لك أن تتزوجي سبع مرات، ومن سبعة رجال مختلفين”.
وبمرور السنين وبعد أن كانت ماري تمثل دور الحبيبة بالنسبة لجبران، تحولت لتمثل دور الأم، وتعترف هي بهذا الدور الجديد الذي بدأت تمثله في حياة جبران، فتكتب له: “اشعر أحياناً يا جبران، أن لي جناحين منتشرين وغالباً عندما ابسطهما للطيران، تضمّ انت اليهما جناحيك الصغيرين  فتحصل على كل قوتك في التحليق معي”.
ويقول لها ذات يوم: الآن أعرف أنك تحبينني
وتنتفض ماري قائلة :
• أما كنت تعلم من قبل
– بلى، ولكن بطريقة مغايرة، حبي أكبر من أن أرضى بك زوجة.
وأخذ يخبرها أنه لم يكن في حياته قريباً من انسان مثلما هو قريب منها:  “لقد ملكت عليَّ مشاعري ومفاتيح خيالي”.
وتكتب له في احدى رسائلها: “اذا كان بوسعي حب رجال آخرين، فإن لدي الكثير من الفرص، لقد التقيت بالكثير من الرجال، لكن بيني وبينك قرابة” ويكتب لها من نيويورك: “أريد أن تعرفي انك أعز شخص لي في الدنيا، فأرجوك لاتخافي الحب، لاتخافي الحب يا رفيقة قلبي، علينا أن نستسلم إليه”.
واستمرت العلاقة بين جبران وماري، حتى بعد أن تزوجت من أحد اقاربها ، وانتقلت الى بيتها الزوجي، حيث بقيا يتراسلان، ويبعث إليها جبران مسودات كتبه لتنقحها وتبدي رأيها فيها، وخلال هذه العلاقة التي استمرت سنوات، كانت ماري بالنسبة لجبران أمّاً وحبيبةً، ويقول عنها ميخائيل نعيمة في كتابه “جبران خليل جبران”: “لا أثر في روحها لغيرة النساء، ولا في قلبها لشهواتهن، كأنها لم تصنع من ضلع الرجل، بل جُبلا من شرفه دون قساوته، ومن عفة المرأة دون ضعفها، وكان جبران يحبها، لكن بغير الحب الذي يحب به الرجل المرأة “.
************

البحث عن الحب بين الحروف
قالت لزوار مجلسها الأسبوعي المنعقد في يوم الثلاثاء من تشرين الأول عام 1912، أنها قرأت مقالة مثيرة لأديب لبناني اسمه جبران خليل جبران بعنوان ” يوم مولدي” وسترسل إليه رسالة تبدي اعجابها بما كتبه وإنها تشاطره الرأي في مبدأ المناداة بحرية المرأة، لأن المرأة في رأيها ينبغي أن تمتلك حرية اختيار الرجل الذي تشاركه حياته وفق ما تمليه عليها ميولها واحاسيسها الخاصة.
كانت مي زيادة في السادسة والعشرين من عمرها حين تعرفت الى جبران خليل جبران، وكان هو في الواحد والعشرين من عمره، وكانت اول رسالة ترسلها اليه قد بدأتها بعبارة الى الأديب الموهوب، لكنه في رسائله ظل يناديها ياعزيزتي، ومن دون أن يلتقيا، شعر كل واحد منهما بأن هناك عاطفة تحركه نحو الآخر، كانت مي امرأة فنانة وحالمة، وقد عبرت بعد سنوات من المراسلات مع جبران، عن امنيتها أن تلاقي الوجه الحبيب الذي تحول المسافة دون رؤيته، متخيلة نفسها محلقة فوق مياه البحر لملاقاته، فقد اصبح جبران يحتل مكانة مميزة في عالمها الرومانسي، فيما كان جبران يشعر بأن “خيوطاً غير مرئية تربطني بك”  وكتب مقالاً تخيل فيه أن روح مي ترافقه بفضل ما اسماه “العنصر الشفاف” وقد أخذ يستخدم صيغة نحن عندما يكتب لها: “منذ كتبت اليك حتى الآن وانت في خاطري، ولقد صرفت ُ الساعات الطوال مفكراً بك مخاطباً إياك مستجوباً خفاياك مستقصياً أسرارك، والعجيب انني شعرت مرات عديدة بوجود تلك الاثيرة  ترقب حركاتي، وتكلمني وتحاورني وتبدي رأيها في أعمالي”.
وفي حزيران عام 1921 ترسل مي صورتها الى جبران ويكتب لها  “شعرت بسعادة وأنا انظر الى وجهك المستدير وعينيك المجروحتين، وشفتيك المكتنزتين، في نظراتك بريق ما، معبّر، وفي قسماتك ملمح ذكرى “ويبدأ يرسم لها صورة بأقلام الفحم ويقول لميخائيل نعيمة وهو يريه البورتريه: “ما أجمل وما احلى هذه البنية، وما اوضح دلائل الذكاء في عينيها” كان جبران يجد فيها حبه الروحي، الحب الذي لم يستطع أن يعيشه مع ماري هاسكال ويكتب لها: “انت معي في هذه الساعة، انت معي يا مي، اعلم اننا اقرب من عرش الله في هذه الليلة منا في اي وقت من ماضينا، انت اقرب الناس الى روحي، وانت اقرب الناس الى قلبي، ونحن لم نتخاصم قط روحينا أو قلبينا” وتكتب مي في احدى رسائلها: “احبك ياصغيري، غير انني  لا ادري بعقلي لماذا احبك؟ ولا اريد أن ادري بعقلي ، يكفي انني احبك بروحي وقلبي، يكفي انني اسند رأسي الى كتفه كئيبة غريبة مستوحدة، فرحة، مدهوشة، مجذوبة، يكفي أن اسير الى جانبه نحو قمة الجبل واقول له بين الآونة والأخرى (انت رفيقي، انت رفيقي).
وفي مقالة نشرتها بجريدة الاهرام بعنوان أنت “تخاطب مي جبران من دون أن تسميه : “من انت، هل انت وحي يفيض عن شعري، طيف من اطياف رغبتي وعذابي؟ أم انك واقع ملموس عبر أفق حياتي كما تعبر سفينة عباب البحر قاصدة الشطآن البعيدة”.
وكتب لها معبراً عن فرحه بتسلم رسائلها: “أن يوماً يجيئني منك رسالة واحدة لهو من الأيام بمقام القمة من الجبل” ثم يتابع رسائله حاثاً إياها على السير وراء نداء القلب: “تقولين لي انك تخافين الحب، لماذا تخافينه ياصغيرتي؟ أتخافين نور الشمس؟ اتخافين مد البحر؟ انا اعلم أن القليل من الحب لايرضيك، كما أعلم أن القليل من الحب لايرضيني. أنت وأنا لا لن نرضى بالقليل. نحن نريد الكثير . نحن نريد كل شيء . نريد الكمال”.
بعدها أحسّ جبران بحالة من الحيرة والقلق وتشتت عاطفي بين ماري هاسكال ومي زيادة، فنقل لها ما يعانيه في احدى رسائله: “ماذا اقول يامي عن رجل اوقفه الله بين امرأتين. امرأة تحوك من احلام اليقظة، وامرأة تحوك من يقظة الأحلام”.
وتعيش مي في حيرة، هل قرر جبران أن يختار بينها وبين ماري هاسكال وتكتب في احدى رسائلها: “انت قادر على الحب، وليس على حب امرأة من لحم ودم ” فكتب اليها: وما المرأة سوى الطريق المؤدية الى الحب المطلق، الحب بذاته”.
وبعد رسائل عديدة يكتب لها في الثالث من آب عام 1923: انك محبوبتي، كلمة الحب، ما معنى هذا الذي اكتبه، لا اعرف ماذا اعني به، ولكني اعرف انك محبوبتي، واني اخاف الحب، اني انتظر من الحب كثيراً، فأخاف أن لايأتيني بكل ما انتظر، اقول هذا مع علمي، بأن القليل من الحب كثير، ولكن القليل من الحب يرضيني”.
لكنه يشعر في أحيان كثيرة ببرودة تحيط علاقته بمي وتأخذ رسائلها بالانقطاع،  فيأخذ بالتوسل إليها أن لاتتركه وحيداً في صحراء الحياة القاحلة:  “يامي أنت تعرفين سكوتك، اما انا فأجهله، وليس من العدالة أن يكون جهل المرء مصدراً لتشويش أيامه ولياليه” وعندما لم يجد رداً، كتب اليها ثانية:  “ما اغرب سكوت صغيرتي المحبوبة، ما اغرب سكوتها، ذلك السكوت الطويل كالأبدية، العميق كأحلام الآلهة”.
لقد أثارت العلاقة التي نشأت بين جبران ومي، عبر الرسائل عدداً لايحصى من التأويلات، حتى انها كتبت رسالة قبل رحيله: “يلومني البعض لأني احببتك، نعم احبك وفي قلبي قبلة خاصة لك، وصومعة تختلي بها لتجد راحتك وتعزيتك”.
************

النهاية المؤلمة
ظلت مي زيادة تخبيء قصة حبها لجبران  خلف الورق والمسافات  ولكن   بعد اثنتى عشرة سنة منذ بدأت تراسل جبران، كانت تامل  أن يصرّح لها برغبته فى الزواج منها، ولكنه لم يفعل. فاكتفى جبران بالحب عن بعد، مفضلا عدم اللقاء، لتكون حبيبته مىّ مجرد ملهمة لخياله لا أكثر، ولأنه لم يكن يسعى للزواج من أى امرأة، مفضلا الحرية.
مرت السنوات ولم تستطع مى زيادة التى عشقها الجميع، التخلى عن حبها لظل رجل مغترب خلف البحار، أخلصت له مشاعرها قرابة عشرين سنة، ولم تلتق به، بينما عوّض هو احتياجاته الذكورية فى علاقاته العديدة، وأشبع روحه فى نفس الوقت بعلاقته بمىّ زيادة، وظلت هى تواجه بسببه تأنيب ضميرها ومجتمعها لقرارها، أن تصبح راهبة فى محراب عشقه، رافضة للزواج، ومحافظة بقداسة على “الأغلال العنيدة” التى كبلت بها نفسها حتى غزا الشيب مفرقها.
وفى سنة 1931 رحل جبران عن الحياة، فقدت مي والدها، ثم رحلت والدتها سنة 1932 وعانت من الوحدة، وظلم أولاد عمومتها الذين أودعوها مصحة نفسية فى لبنان طمعاً فى ميراثها، وفقدت زيادة رغبتها وشغفها بالحياة حتى رحلت سنة 1941 عن عمر يناهز الـ55 عاما فى مستشفى المعادى بالقاهرة.
____
*المدى

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *