خلال ثلاثينيات القرن العشرين، عندما بدأ نجم السينما الصامتة في الأفول، بإدخال صوت حوار الشخصيات في الفيلم، هناك من نعى السينما كمنظومة فنية وبصرية وقائمة بذاتها، معلناً موت الفن السابع. والحقيقة أن هذا “التهويل” له مبرراته، إذا ما نظرنا إلى أن واحداً من القواعد المميزة للسينما قد تضررت أو لنقل تم التساهل معها وهو سرد القصة من خلال أفعال الشخصيات في صور متحركة، كخاصية ميزت السينما عن المسرح مثلاً، والقائم في معظمه على سرد القصة من خلال حوار الشخصيات وليس الفعل.

مع نهاية الخمسينيات، انتقل الإنتاج العالمي إلى السينما الملونة، ومرت السينما بأطوار من التطور على مستوى الصنعة السينمائية وأيضاً على صعيد القدرات الإنتاجية، وصارت العودة للسينما الصامتة، بمثابة زيارات يقوم بها العشاق الهائمون في الفن السابع، ذلك لتقفي أثر البواكير الأولى لنشوء هذا الفن والنظر إلى البراعة الذهنية والمخيلة الإبداعية لصناع السينما الصامتة وهم يصنعون روائع لا تنسى مثل أفلام “ميتروبوليس”، و”عيادة دكتور كاليغاري”، و”الأزمنة الحديثة” وغيرها من الأفلام الصامتة التي لا تزال تدرس في معاهد السينما ولا يزال أساتذة صناعة الفيلم ينصحون طلابهم بمشاهدتها والعودة لاكتشافها بعمق.

وفي الحقيقة إن مشاهدة الأفلام الصامتة لها روح خاصة وشخصية فريدة، إنها في مكان ما، تشبه المقطوعة الموسيقية الخام، كالفولورزا لبتهوفن أو شهرزاد لكورساكوف؛ عملٌ فني بلغة عالمية، تصل للجميع من مختلف الشعوب والثقافات واللغات، كما هو الفيلم الصامت الذي يقص حكايته بالأفعال، وتكون حبكاته مرئية. من ينسى مثلاً فيلم “أضواء المدينة” لشارلي شابلن. هذه القصة التي تدور حول شخصية رجل طيّب وفقير يجسده شابلن، يقوم بمنع رجل من الانتحار، ويكون هذا الرجل بصدفة، تاجراً ثرياً، يغدق شابلن بالمال نظير موقفه الإنساني، وانتشاله من موت محقق. يقوم شابلن بإعطاء المال لفتاة أحبها، هي شابة عمياء تقتات من بيع الزهور في الطرقات، وذلك لكي تجري عملية جراحية في عينيها ربما تسترد بصرها. يذهب شابلن ويقع في مشكلة ويسجن، عندما يخرج، يصادف بائعة الزهور وقد انتقلت في متجر فخم، لكنها لا تتعرف عليه وحسب بل تزدري مظهره المتسخ فيتألم شابلن، من هنا تظهر براعة الحبكة البصرية، في مثل هذه الأفلام التي قدم العديد منها شابلن، بمصاحبة المواقف الكوميدية المحببة للمشاهدين. ولكن ماذا عن هذا الزمن؟، حيث الطبيعة المغايرة للفن وذائقة المتلقين المتشكلة منذ الصغر بالمسلسلات التلفزيونية السائدة، ذات الحوارات التقليدية والمكررة، كيف لهذا المشاهد أن يتابع فيلماً صامتاً دون أن ينشغل، بملهيات الموبايل أو غيره.

يبدو أن الأمر مستحيل لمشاهدة فيلم صامت ولكن لنجرب أن نبدأ بالصغار والذين يمتلكون حِساً واستيعاباً فطرياً لمشاهدة العمل الصامت وفهم لغته، فالطفل منذ أن تتشكل حواسه وتنمو مدركاته في السنوات العمرية المبكرة، ينجذب فوراً لمشاهدة “تيلي تابيز” و”بنك بانثر” و”ميكي ماوس” وغيرها. لماذا؟ لأنها أفلام تقوم على الفعل والحركة، منتجة لغة تعبيرية لا تحتاج إلى تعلم الحروف والأرقام. فضلاً عن دور مثل هذه الأفلام الكرتونية الصامتة في تنمية الطاقة الذهنية للأطفال، من قوة الملاحظة إلى التخيل والتخمين وليس كتلك المسلسلات المدبلجة أو حتى المنتجة في المنطقة العربية، والتي تطرحها في الغالب مؤسسات “مقاولات”، تدبلج بضعة سنوات ثم تغلق وتفتح غيرها.

أخيراً وبالرجوع للكبار، نتذكر المحاولة الجادة في العودة للسينما الصامتة من خلال الفيلم الفرنسي “الفنان” والذي فاز بجائزة الأوسكار لعام 2011، في تأكيد بأن الفيلم الصامت، عصّيٌ على الفناء، إذ كيف يموت هذا الفن وقد تضمن في داخله، كل عوامل البقاء وشعاع الخلود.
_______
*الرياض الثقافية