أمين الزاوي:القارئ بالعربية يمارس دور رقيب ديني على الكاتب

*حميد عبد القادر

يرى الروائي الجزائري أمين الزاوي، أن روايته الجديدة الصادرة حديثا بباريس عن منشورات “سيربون آبلوم” بعنوان طفل البيضة”، عبارة عن نص حول توحش الإنسان المعاصر. وهي رواية عن الوحش الجديد الذي يصعد في الإنسان الفرد من جراء توسع الفكر المتطرف والحروب الدينية وغياب المواطنة كممارسة حضارية وسياسية.  وهي “خلاصة تأمل للانهيارات الفظيعة التي تحصل في المجتمع المعاصر خاصة المجتمعات الإسلامية التي طغى عليها انشدادها إلى الماضي”، اعتقادا منها بأنه “زمن الصفاء”. وتتناول الرواية مأساة مهاجرة سورية، جاءت للعيش في الجزائر، تضطر للفرار إلى كندا، بعدما اكتشف جيرانها أنها مسيحية. وتناول الزاوي في عمله الجديد صعوبة فكرة العيش المشترك في مجتمع جزائري يهدده التطرف.
هنا الحوار:

*تناولت في روايتك الجديدة 

“طفل البيضة” الصادرة في باريس مؤخرًا موضوع التسامح، في مجتمع تخلى عن انفتاحه تدريجيًا، وسار في ظلمات الانغلاق، كيف وصلنا إلى هذا الوضع؟

 روايتي الجديدة “طفل البيضة” أو “L’enfant de l’œuf” الصادرة بباريس والتي نزلت إلى المكتبات ابتداء من 7 سبتمبر/أيلول الجاري، وستكون حاضرة في معرض الكتاب الدولي بالجزائر في طبعتها الجزائرية من منشورات برزخ، هي نص اشتغلت عليه منذ 2014 وكان من المنتظر صدورها في الدخول الأدبي الماضي لكني فضلت تأجيلها وإعادة صياغة بعض فصولها. و”طفل البيضة” هي خلاصة تأمل للانهيارات الفظيعة التي تحصل في المجتمع المعاصر خاصة المجتمعات الإسلامية التي طغى عليها ارتباطها بالماضي الذي تعتقد وهماً بأنه “زمن الصفاء” وخوفها من المستقبل وهروبها من مواجهة الحاضر الذي نتقاسمه مع الآخرين المختلفين عنا دينيًا وسياسيًا وفكريًا ولغويًا ومؤسساتيًا. رواية “طفل البيضة” هي نص عن توحش الإنسان المعاصر. رواية عن الوحش الجديد الذي يصعد في الإنسان الفرد من جراء توسع الفكر المتطرف والحروب الدينية وغياب المواطنة كممارسة حضارية وسياسية وتهميش المرأة في المجتمعات الإسلامية وتحويلها إلى عدو وأنها هي سبب كل الانكسارات التي عرفتها وتعرفها المجتمعات والبلدان العربية والمغاربية.

أنا لا أكتب رواية معلقة في فراغ فكري أو معلبة داخل بذخ إنشائي مراهق، ما أمارسه منذ نشرت أول رواية لي “صهيل الجسد” بالعربية وحتى روايتي الجديدة “طفل البيضة” بالفرنسية، هو الدفاع عن  مشروع روائي متكامل ومفتوح، إن على مستوى الموضوعات الذاتية أو المجتمعية أو التاريخية، هذا المشروع الروائي يظهر جيدًا في ما كتبته روائيًا (عشر روايات بالفرنسية وعشر روايات بالعربية)، والذهاب أو الانتقال من لغة إلى أخرى هو تكريس لما يشغلني من هواجس تؤرقني كمثقف ومبدع وهي تدور حول: الدين والمرأة والمواطنة والحرية الفردية المعدومة في المجتمعات العربية والإسلامية التي تغلّب القطيع على الفرد. فاللغة سواء كانت عربية أو فرنسية في كتابة الرواية، لا تغير من موقفي الفكري والسياسي تجاه هذه القضايا التي تمثل العمود الفقري لمشروعي الروائي.

الخوف من الاختلاف

  

*هل هي تجسيد لفكرة “العيش المشترك” التي طالما دافعت عنها في مقالاتك الصحافية؟

أعتقد بالفعل أن الإنسان العربي والمغاربي المسلم، بشكل عام، يعيش حالة من الخوف، الخوف من المختلف حتى في المجتمع الواحد نفسه، يخاف من وجود المسيحي ويخاف من وجود اليهودي في مجتمعه، يخاف من وجود تنوع ديني، ويخاف من التنوع الثقافي واللغوي، ويخاف أيضا من الآخر الموجود خارج مجتمعه، وهذا الخوف أو فوبيا الآخر هو نتاج غياب الثقافة وغياب الفنون في الحياة الفردية والاجتماعية للمواطن المسلم، وضغط الثقافة الماضوية والاكتفاء في علاقتنا بالآخر بما هو استهلاكي والذي في نهاية الأمر لا ينتج سوى الكراهية والتبعية. في روايتي “طفل البيضة” نكتشف أيضًا عقلية الجزائري الذي لا يقبل ولا يتخيل حتى أن يكون هناك “عربي” مسيحي أو يهودي، فشخصية “لارا” السورية المسيحية والطبيبة المهاجرة إلى الجزائر هربًا من الحرب المدمرة التي تعصف ببلدها، حرب من إستراتيجيتها الإرهابية أيضا تفريغ  البلدان العربية (سورية، العراق، مصر) من المسيحيين وبالتالي العودة إلى عصر الفتوحات ودفع الدية وفكر أهل الذمة. في الرواية “طفل البيضة” تجد شخصية لارا نفسها وسط مجتمع جزائري يرحب بها ويتعاطف معها في البداية كامرأة شردتها الحرب لكن بمجرد أن يعرف الجيران وأهل الحي الذي تقيم فيه بأنها مسيحية وأنها تدخن حتى ينقلب عليها الجميع، ويتم التضييق على حياتها الشخصية وحريتها الفردية، تعاني من الحصار فتعيش حالة من الاختناق، إنها حرب أخرى ضدها، حرب قاسية وبطريقة أخرى.

في روايتي “طفل البيضة” محاولة للوقوف على مجتمع استبدل المواطنة بالدين، مجتمع يرى  الدين قبل المواطنة، والمؤمن قبل المواطن، فالمجتمع من خلال “السلطان الديني” يقوم بدور الإله، فهو الرقيب والحسيب لا على صلاح المواطن ومدى مساهمته في تطوير المجتمع المدني بل مراقبته في عقيدته وفي إيمانه، وطغيان التدين هو دليل على النفاق الاجتماعي، طغيان التدين يترافق مع طغيان الأوساخ والتفسخ والفساد، التدين أكبر سترة يمكن أن يستعملها الفاسد في مجتمع غير ثقافي تغيب فيه فلسفة المواطنة، وهذا هو سبب تخلف مدننا وتخلف المدنية في مجتمعاتنا. ونظرا للحصار الذي تعيشه شخصية “لارا” في فضاء الهجرة والالتجاء في المجتمع الجزائري المتمظهر بالتدين الزائف، تضطر للبحث عن هجرة ثانية نحو كندا، حيث الآخر الأميركي الغربي هو الذي يحتضنها دون أن يسألها عن إيمانها ولكنه يطالبها بعمل وبإنتاج وباحترام القوانين.

اكتب باللغة التي تسكنني

*هل منحتك اللغة الفرنسية أكثر حرية وأنت تكتب هذه الرواية عن مجتمع / مجتمعات تسير نحو الانهيار؟

لا أكتب بلغة (الفرنسية أو العربية) إلا إذا شعرت بأنها تسكنني، بأن لي معها علاقة توهج، علاقة تشبه الشبق، أي أحولها إلى ملكية خاصة، وما أكتبه بالعربية أكتبه بالفرنسية، ومشروعي الروائي تتقاطع فيه النصوص بالفرنسية وبالعربية، لكن المشكلة تكمن أساسًا في محيط اللغة لا في اللغة نفسها، المشكل يكمن في الفضاء الثقافي والحضاري الذي تعيش فيه هذه اللغة أو تلك، فالكتابة بالعربية للأسف تعيش داخل محيط سوسيو- ثقافي معاد للكتابة الحرة، معاد للحرية الفردية، رهين الفكر القطيعي، رهين التدين السياسي الفاسد، المحيط السوسيو- ثقافي الذي تعيش فيه اللغة العربية يتحسس من كل كتابة خارجة عن الطريق المرسوم مسبقًا، كما أن القارئ بالعربية، الذي هو نتاج هذا الواقع السوسيو- ثقافي، إضافة إلى عزوفه عن القراءة الإبداعية كجزء من الحياة اليومية، وهو يمارس عملية رقيب ديني على الكاتب، رقيب دون أن يقرأ، شخصيًا تخيفني رقابة القارئ المعرب، رهين ثقافة التدين السياسي الفاسد أكثر ما تخيفني رقابة السلطة المؤسساتية، في رأس القارئ بالعربية فقيه يزن الرواية بميزان الحسنات والسيئات! وحسب هذه الحسنات والسيئات يوزع صكوك الدخول إلى الجنة أو الطرد منها، وإضافة إلى ذلك فالقارئ بالعربية هو قارئ مؤسس داخل “العنعنة”: قيل له عن كاتب، سمع عن كتاب… قارئ قائم على المنقول والمتناقل والمسموع، إنه قارئ يحكم من خلال أقوال الشارع أو ما تفرخه الصحافة الصفراء، قد يبدو كلامي هذا عامًا، لكنه الواقع الثقافي الذي إذا كان فيه بعض استثناء فهذا لا ينفي أبدًا هذه الظاهرة المرضية المستفحلة في القارئ بالعربية. أما الكتابة بالفرنسية، وأتحدث هنا عن الجزائر، فالقارئ الجزائري بالفرنسية يحاول أن يجتهد، يبذل جهدًا في الفهم وفي السؤال، يتميز هذا القارئ بكثير من التسامح وقبول الرأي الآخر، يحاول قدر الإمكان التحرر من ثقافة التدين السياسية الزائفة، وهو في غالب الأحيان لا يطلق أحكامًا إلا بعد القراءة، القارئ بالعربية يطلب منك أن تهديه الكتاب كي يقرأه أما القارئ بالفرنسية فيشتري الكتاب، والكتب المهداة لا تقرأ والكتاب الذي يشترى يقرأ بحب ونقد. الكُتّاب بالعربية تحولوا إلى شلل، الكاتب بالعربية لا يبحث عن قارئ بل يبحث عن مريد، لأن في
ذهنه ينام فقيه، لذا مريدو الكُتّاب بالعربية هم من الكتاب أنفسهم أما القارئ فهو خارج اللعبة.


القارىء الجيد مفرنس

 

*هل اللغة العربية في حد ذاتها، لا تملك هذه الحرية التي تجدها في اللغة الفرنسية؟

لكل ذلك أقول المحيط اللغوي (المؤسسات والقارئ والإعلام) قد يساعد ويشجع على الكتابة كما أنه قد يصيب الكاتب بنوع من الإحباط، وهذا هو الفرق ما بين الكتابة بالعربية والكتابة بالفرنسية في الجزائر. أتصور أنه ومنذ التعددية السياسية والإعلامية وبعد تجربة نصف قرن من التعريب، إذا كان “الكم” معربًا في الجزائر فالقارئ الجيد للأدب وخاصة الرواية لا يزال هو المفرنس، أدرك ذلك جيدًا من خلال لقاءاتي العديدة مع القراء في كل المدن الجزائرية وفي المداشر والقرى، ويوميًا يلتحق آلاف القراء من الشباب بقطاع القراءة بالفرنسية بعد أن سئموا من توظيف العربية في التدين الزائف ولغة الخشب الثقافي والسياسي، العربية لغة جميلة كما هي اللغات جميعها، ولكنها لغة صادرها الصوت الديني المتطرف أو الصوت الأدبي الذي يدور في بالونات لغوية مراهقة لا تترك أسئلة فلسفية ولا سياسية ولا جمالية لدى القارئ، والمدرسة وبعض الإعلام لا يزالان يكرسان بأن العربية هي لغة الجنة ومن يتعلمها فهو على طريق الجنة مباشرة، لذا فهي تزحف يوميا نحو الرهبنة واللاهوت وتبتعد عن التاريخي والزمني.

 

*الرواية تبدو كقصة حب في البدء، لكنها تغوص في فلسفة الجسد، وترتبط بسؤال الوجود، وفيها موقف واضح وصريح ضد التطرف الديني، هل مهمة الروائي اليوم تتوقف عند فضح هذه التجاوزات بواسطة حمل رسالة أيديولوجية؟

أولا الرواية ليست رسالة أيديولوجية، الرواية بناء أدبي جمالي، اشتغال على اللغة وعلى هندسة السرد، والروائي الذي لا يعرف كيف يحكي حكاية هو في رأيي روائي فاشل، الرواية هي قول أشياء فلسفية ودينية وسياسية من خلال شهوة الحكاية.

روايتي “طفل البيضة” هي رواية حب بين جزائري وسورية، لكن من خلال هذه الحكاية التي فيها كثير من فلسفة الجسد، وسؤال الوجود، هي في الوقت نفسه صرخة ضد التوحش الديني الذي فرّغ الإنسان من القيم الإنسانية العالية وألحقه إما بالدروشة أو بالانتحار أو الموت حيًا أو الرضا بالعيش داخل القطيع، نحن نعيش في عالم عربي وإسلاموي يعيش فيه الإنسان ميتًا، لا يحلم إلا بالموت، وهو أجّل حياته لما بعد الموت، المسلم الراهن يقيم في الموت أكثر ما يقيم في الحياة، يدافع عن الموت أكثر ما يدافع عن جمال الحياة، يدافع عن القبر أكثر ما يدافع عن حيّه ومدينته ووطنه.

في “طفل البيضة” الشخصية الرئيسية “مول أو مولود” الذي هو صحافي يقوم بتحقيق عن الجالية السورية في الجزائر وعن تفشي الدعارة، وكذا ظاهرة المتاجرة بالفتيات القاصرات، يواجه مول أو مولود هذا، التوحشَ الديني فيختار العزلة والعيش مع كلب هو هاريس، كلب بأسئلة وجودية وسياسية وفلسفية يناقشه ويقاسمه مشاعر الإنسانية التي ضاعت من الإنسان، في الرواية يقوم الكلب هاريس بسرد كثير من وقائع الرواية التي تستعرض ماضي الشخصية مول، ويعيش مول أيضًا مع لارا المسيحية الغريبة السورية، هذه الغريبة الهاربة من جحيم حرب دينية لتجد نفسها وهي الغريبة تنقذ شخصًا يعيش في مجتمع منغلق غارق في ثقافة التدين الفاسد، وأعتقد أن المجتمع الذي يعيش حربًا دينية واضحة المعالم أهون من المجتمع الساكن الذي يعيش التدين السياسي الفاسد اجتماعيًا وثقافيًا. في رواية “طفل البيضة” نجد الغريبة والكلب هما من ينقذ مول من الوحدة ومن فداحة ما يجري حوله من مجتمع ديني متعصب وفاسد.

___________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *