يفرح القارئ حين يعثر على كاتب يفاجئه، ويفرح الكاتب حين يعثر على قارئ يفاجئه أيضًا.
ولكل كاتب، في ظنّي، تجارب كثيرة مع هذا النوع من القراء، الذين يبزغون فجأة ويبثّون في نصه حياة أخرى لم يكن قد تنبّه لوجودها، بحساسيتهم وثقافتهم، وعمق بصيرتهم؛ وهؤلاء، ليسوا أقلّ إبداعا من أفضل نقاد أدبه؛ وإن كان ثمة شيء في القارئ المختلف، قد لا نجده في الناقد المختلف! ففي قراءة الأول للنص، يتجاوز العملُ حدوده المرسومة في الصفحات، إلى حضوره الحيّ، فإذا بالكتاب يسير على الأرض، ويكبر، يتنفّس، ويغدو جزءًا أصيلا من أرواح قارئاته وقرائه وأحلامهم، وأفكارهم وحواراتهم وعلاقتهم بالعالم.
في هذه قد يتفوق القارئ على كثير من النقاد، أو لنقل على كثير من النقد.
لا أبالغ هنا، إذا قلت إن هنالك قراء أثّروا في حياتي، وفي كتابتي، وباتوا جزءًا من حيوية النص لدي، وجزءا من حيويتي الإنسانية، وفكرتي عن الكتابة، وفكرة الكتابة عن نفسها، وموقعها في هذا العالم.
بعض هؤلاء، القارئات، والقراء، تحوّلوا إلى أصدقاء حقيقيين لي، وبتُّ أعتمد على تصوّرهم ورأيهم في كل كتابة جديدة لي، لأنهم باتوا يقرؤون كتبي قبل صدورها، إلى جانب أولئك الأصدقاء التاريخيين الذين أعتمد على تلقيهم لكل جديد أنجزه، وأنتظر رأيهم فيه بلهفة، وأسمعه باحترام، فينير لي في كثير من الأحيان جوانب مهمة، قبل أن يمضي الكتاب إلى المطبعة، ليعتمد على نفسه، في شق طريق حياته المستقلة عن كاتبه.
ولا يبالغ المرء كثيرا، إذا قال، إن بعض القارئات والقراء يحمِّلونك من المسؤولية، أكثر مما يحمِّلك النقاد – والنقد ذكوري عادة، متجهّم!- لأن النقاد يتحدثون انطلاقا من العلميّة الرّصينة، التي تحرص في أغلب الأحيان على ألا تُظهر عواطفها، عكس القراء الذين يقدّمون عاطفتهم أولا في لقائهم مع الكاتب، ثم ينتقلون إلى الجانب العقلي الذي جعلهم يتعلقون بهذا الكتاب أو ذاك، أو بما يكتبه عموما.
ولذا، لا أخفي أنني أخاف على قارئاتي وقرائي، وأخشى أن يصيبهم أي مكروه؛ بعضهم أخاف عليه من الموت، بسبب التقدم في العمر، وبعضهم أخاف عليه من طاقة الشباب التي فيه، وأتابع أخبار المواجهات مع القوات الصهيونية، والمواجهات مع الأنظمة العربية، ويدي على قلبي، وأحيانا أخاف عليه بسبب شيء كتبه على صفحته. وهناك قارئات وقراء أخاف عليهم وأنا أتابع أخبارهم في السجون، وحين يبدأ إضراب عن الطعام، أتحوّل مثل أمهاتهم وآبائهم، الذين لا تفارقهم وجوه أبنائهم، ولأن بعضهم لم ألتقه من قبل، إلا عبر الرسائل والمكالمات الهاتفية المختلسة من وراء القضبان، أرسم صورَهم، وأنتظر زيارات إخوانهم أو أحد أفراد أسرهم لي، لأن الأسرى يوصونهم على إحضار هذا الكتاب أو ذاك، ودائما أطلب أن أرى صورهم.
.. وهناك قارئات وقراء، لا تتاح لك فرصة لقائهم، لأنهم في أماكن بعيدة، أو ظروف حياة صعبة. وهناك قارئات وقراء ممن تحوّلوا إلى أصدقاء حقيقيين، فاجأك الموت واختطفهم، هكذا، بمقدمات أو من دون مقدمات. هنا أحس بأن كل نص جديد لي، يتيمٌ من دونهم, وأنه قد دخل متاهة من نوع ما، فهم لن يكونوا مشاركين في تلقّيه، لا قبل صدوره، ولا بعد صدوره. هنا يفقد الكِتاب حياة غالية من حيواته التي كان يمكن أن يعيشها في رحابة أرواحهم، ومدى بصيرتهم وروعة شفافيتهم، ويفقد الكاتب أحبة استثنائيين وبوصلة سامية.
أعرف أن كثيرا من القارئات والقراء، يتطلعون للحظة تجمعهم مع كاتب ما، أحبوه كثيرا، ولكن الكاتب نفسه، يتطلع في حالات كثيرات للقاء قارئة أو قارئ.
في الأمسيات، غالبا ما أحس بأنني أقرأ أو أتحدث لشخص واحد، وقد كتبتُ عن ذلك بتوسع قبل خمسة عشر عاما. يحدث أحيانا أن لا تجد ذلك الشخص المنشود، ولذا تكون تلك أسوأ الأمسيات، بالنسبة لي، مهما كانت موفقة، لأنني أحس بأن الكلمات ظلت طافية في الهواء، لا محلقة في قلب المستمع، وعينيه.
هذه المعادلة بالتأكيد، هي خارج النمط الأفقي للعلاقة بين الكاتب وقارئاته وقرائه، العلاقة التي يُستهلك فيها الكِتاب، مثل أي وجبة مُشهيّة، أو غير مُشهيّة، تنتهي، فتنتهي العلاقة، فيبدأ البحث عن علاقة جديدة بكتاب جديد ليُستهلك!
هذه معادلة الشغف، والقراءة بالروح، لا بالعينين، وبالبصيرة لا بالبصر، وهي علاقة يتمنّاها المرء لا في مجال القراءة وحسب، بل في كل مجال آخر، حبا كان، صداقة، أسرة، هدفا، أو وظيفة.
رحلت قارئات وقراء، تركوا فراغا كبيرا في الروح والكتابة، وأنتظرُ لقاء كثيرين آخرين في الحرية، خارج القضبان، ولقاء آخرين لم أعثر عليهم بعد، ولذا لن تكتمل الكتابة، إلا بهم.
وبعد:
دائما أتساءل من كتب القصيدة
الشاعر؟
أم القارئ الذي أحبَّها إلى هذا الحدّ؟!
وبعد أيضًا:
هل يَكتُبُ من لا يُقرَأ؟!