علماء وأطباء لقوا حتفهم في سبيل إثبات نظرياتهم

*ساسة بوست- فاطمة نادي

حياة العلماء مسيرة شاقة من البذل والعطاء، يهبون فيها العالم ثمار مجهوداتهم المُضنية، على مدى سنوات من العمل الجاد من أجل بناء عالم أفضل. لا تخلو رحلتهم من مواجهة الصعوبات، والتعثر أمام العقبات التي تُصادفهم في طريق تحقيق أهدافهم، التي لا تأتي بالطبع على طبقٍ من فضة.

يدفع غالبيتهم الثمن غاليًا على هيئة تضحيات مادية واجتماعية وغيرها، في سبيل إثبات نظريته والخروج بأفكاره إلى النور، غير أن العلماء الذين تتحدث عنهم السطور التالية لم يكتفوا بهذا وحسب، بل أخذهم طموحهم إلى مستوًى أعلى كلّفهم ثمنه فُقدان حياتهم.

طبيب أصاب نفسه بالمرض لإثبات طريقة انتشاره

بعدما نقلت إسبانيا رسميًا سيادتها على جزيرة كوبا، أكبر جزر البحر الكاريبي، إلى الولايات المتحدة في الأول من يناير (كانون الثاني) عام 1899، كان مرض «الحمى الصفراء – Yellow Fever» من أكبر المخاوف التي واجهت الحكومة الأمريكية الجديدة هناك.

أخذت تلك الحمى أرواح العديد من الأفراد في كوبا؛ الأمر الذي أثار مخاوف المسؤولين الأمريكيين على صحة قواتهم، البالغ عددهم 50 ألف جندي أمريكي متمركزين في الجزيرة. أثارت كذلك قلق الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة حول إمكانية انتشار المرض، في الولايات الجنوبية مع تزايد التجارة بين كوبا والولايات المتحدة.

اتخذت الحكومة الأمريكية عدة تدابير وقائية، واستخدمت سلطاتها لتنفيذ برنامج صحي ضخم، يهدف إلى القضاء على الحمَّى الصفراء في كوبا، لاحقًا مع حلول صيف عام 1900، أثبت برنامج الولايات المتحدة الوقائي فشله في السيطرة على المرض في البلاد.

بعد اليأس من محاولات الحكومة الأمريكية في السيطرة على الحمى الصفراء، أراد الجيش الأمريكي جمع مزيد من البيانات عن المرض في كوبا؛ فأمر بتشكيل لجنة عسكرية جديدة كلفها بمتابعة التحقيقات العلمية، المتعلقة بالأمراض المُعدية المنتشرة في جزيرة كوبا.

في مايو (أيار) من عام 1900، شُكلت اللجنة من أربعة أعضاء، من بينهم الدكتور «جيسي لازير Jesse Lazear»، الذي كان يعمل في مستشفى «جونز هوبكنز Johns Hopkins» العريق، وانضم إلى الجيش لدراسة الأمراض الاستوائية في أماكن انتشارها الرئيسة.

حصلت اللجنة على إذن من القيادة العسكرية؛ لبناء منشأة تجريبية أُطلق عليها اسم «مخيم لازير Camp Lazear». هناك اعتمدت دراستهم على تجارب جريئة أُجريت على البشر، الأمر الذي كان القيام به ضروريًا؛ إذ لم يكن معروفًا وقتها أن الحمى الصفراء تُصيب أية أنواع أخرى غير البشر.

أثبتت اللجنة أن نوعًا من البعوض كان الناقل للفيروس المُسبب للحمى الصفراء، افترض العالم الكوبي «كارلوس فينليCarlos Finlay» نظرية مُشابهة، تربط بين البعوض والإصابة بالمرض لأول مرة عام 1881، لكنه لم يُقدم إثباتًا قاطعًا لنظريته أمام المجتمع العلمي العالمي.

سعى أعضاء اللجنة خاصةً الدكتور «لازير» إلى مساعدة «فينلي» في توضيح واختبار نظريته عن البعوض، الأمر الذي تسبب في وفاته خلال المراحل المبكرة جدًا من التجارب، عندما سمح لبعوضة أن تلدغه؛ لكي تنقل له المرض الذي أودى بحياته في سبتمبر(أيلول) عام 1900.

«طباخ السم ذوّاقه».. كيميائي قتلته السموم التي اكتشفها 

يبدو أن المثل القائل «طباخ السم ذوّاقه»، ينطبق على «كارل شيله Carl Scheele» الذي كان كيميائيًا نابغًا، ولد في التاسع من ديسمبر (كانون الأول) عام 1742، بمدينة «شترالزوند Stralsund» الألمانية، التي كانت تخضع لحكم السويد آنذاك.

بدأ في سن الرابعة عشرة التدريب صيدليًا لدى إحدى الشركات بمدينة «غوتنبرغ Gothenburg»، وهناك ساعده توافر المواد الكيميائية المتنوعة، إلى جانب قراءته المكثفة للكتب العلمية الموجودة في ذلك الوقت، على الانطلاق في رحلة من الدراسات والاكتشافات.

لاحقًا في عام 1768، انتقل شيله إلى العاصمة السويدية «ستوكهولم Stockholm»؛ للحصول على وظيفة أخرى في مجال الصيدلية، وأيضًا ليقترب بشكلٍ أفضل من الأوساط العلمية. استطاع هناك بالفعل التعاون مع الكيميائي وعالم النبات والحشرات «أندرس يوهان ريتسوس Anders Johan Retzius»، في عزل حمض الطرطريك من زبدة الطرطيرونُشرت نتائجهم في عام 1770.

علاوةً على هذا، انتُخِب شيله عام 1775 لعضوية الأكاديمية السويدية الملكية للعلوم، بحضور ملك السويد وهو شرف عظيم لم يسبق أن ناله طالب صيدلة مثله من قبل. فضلًا عن ذلك، كان أول من اكتشف عناصر الأكسجين، والكلور، وفلوريد الهيدروجين، وفلوريد السيليكون، وكبريتيد الهيدروجين، وسيانيد الهيدروجين.

بالإضافة إلى كونه أول من عزل ووصف أحماض الطرطريك، والستريك، واللاكتيك، واليوريك، والبنزويك، والجاليك، والأوكساليك، واللاكتوز، والبروسيك، وحمض الزرنيخ، والموليبديك، والتنجستيك، وزرنيخيت النحاس. كذلك، كان أول من قدم تقريرًا عن تأثير الضوء على أملاح الفضة؛ الذي شكَّل فيما بعد أساس التصوير الحديث.

لكنه – مع الأسف – توفي عام 1786 في الثالثة والأربعين من عمره، بعد أن تدهورت صحته على الأرجح نتيجة تجاربه المتكررة على السيانيد والزرنيخ، دون توفر وسائل تهوية مناسبة في مكان عمله، إلى جانب اعتياده تذوق جميع المواد الكيميائية التي اكتشفها؛ والتي يُعد كثير منها سُمومًا قاتلة.

مُصمم غواصات أغرقته غواصته الأخيرة

كان «هوراس لوسون هونلي Horace Lawson Hunley» مهندسًا رائدًا في تصميم الغواصات، ولد في 20 يونيو (حزيران) عام 1823 بولاية «تينيسي» الأمريكية. مارس القانون في البداية محاميًا، وخدم بصفته عضوًا في المجلس التشريعي الخاص بولاية «لويزيانا»، إلا أنه كان يملك شغفًا تجاه الغواصات.

بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية، شارك «هونلي» في القوات البحرية التابعة لتحالف الولايات الكونفدرالية، وساعد في تصميم وبناء ثلاثة نماذج مختلفة من الغواصات. يُعد نموذجه الثالث أول غواصة قتالية، تلك التي شارك في تمويلها بنفسه ثم أودت بحياته لاحقًا.

في 15 أكتوبر (تشرين الأول) عام 1863، توفي «هونلي» مع سبعة من أفراد الطاقم، خلال قيامهم بتجربة اختبار غواصته الثالثة، التي غرقت بهم في قاع البحر بولاية «كارولينا الجنوبية». استردت الولايات الكونفدرالية الغواصة الغارقة فيما بعد، وأرسلتها مجددًا مع طاقم جديد، نجح في البقاء على قيد الحياة، علاوة على هذا حققوا إنجازًا كبيرًا حين تمكنوا من إغراق سفينة حربية.

سُميت الغواصة «CSS H. L. Hunley» نِسبةً إلى «هونلي» بعد وفاته في عمر الأربعين عامًا، وتُعد أول غواصة من نوعها في التاريخ تُغرق سفينة حربية للعدو في قتال.

«مدام كوري» والإشعاع الذري

«ماري كوري Marie Curie» عالمة الفيزياء والكيمياء الشهيرة، التي اكتشفت عنصر البولونيوم Polonium والراديومRadium، وعُرفت بأبحاثها حول النشاط الإشعاعي. حازت على جائزتي نوبل، إحداهما في الفيزياء حصلت عليها عام 1903، بالاشتراك مع زوجها «بيير كوري Pierre Curie» والفيزيائي الفرنسي «هنري بيكريل Henri Becquerel»، والأخرى حصلت عليها منفردة في الكيمياء عام 1911.

كانت مدام «كوري» أول امرأة تفوز بجائزة نوبل، وأول من يحصل عليها مرتين، تُعد كذلك السيدة الوحيدة التي فازت بها في مجالين مختلفين. قدمت إسهامات جليلة في مجال الفيزياء، لم تقتصر على خدمة عملها الخاص وحسب؛ بل ساعدت الأجيال اللاحقة من الفيزيائيين والكيميائيين النوويين.

أسست كوري نظرية النشاط الإشعاعي، واتضح معها الأضرار المميتة التي يمكن أن يُحدثها النشاط الإشعاعي على صحة الكائنات الحية. توفيت في الرابع من يوليو (تموز) عام 1934، بعد إصابتها بفقر الدم اللاتنسجي aplastic anemiaالناجم عن تعرضها المتكرر للإشعاع الذري خلال عملها.

طبيب روسي أنهى حياتَه طموحُه في إطالة عُمره

كان الروسي «ألكسندر بوغدانوف Alexander Bogdanov» طبيبًا وفيلسوفًا وسياسيًا ثوريًا وكاتب خيال علمي، بالإضافة إلى تأسيسه أول مؤسسة في العالم تُكرس جهودها بالكامل في مجال نقل الدم عام 1926. اعتقد «بوغدانوف» أن عمليات نقل الدم تُنشط الجسم، ورأى فيها نوعًا من العلاج البديل الذي بإمكانه مقاومة الأمراض.

أجرى في الرابعة والخمسين من عمره عملية نقل دم بينه وبين طالب جامعي، دمه مُصاب بالسُّل والملاريا. اعتقد بوغدانوف أن تعرضه السابق للسُّل بشكل متكرر أكسبه مناعة تُقاوم المرض، لكن حالته أخذت تتدهور سريعًا بعد عملية نقل الدم.

أجرى الأطباء نقل دم جديد له، مع هذا توقفت كليتاه عن العمل حتى تحول لون بوله إلى الأسود، وبدأت رِئتاه تمتلئان بالسوائل. أدرك طبيبه حينها أن حالته في مرحلتها الأخيرة، لكنه وافق على عملية نقل دم أخرى، بناءً على طلب من عائلة «بوغدانوف». تحسن تنفسه فترةً قصيرة، ثم توفي بعدها بفشل في القلب في السابع من أبريل (نيسان) عام 1928.

على الجانب الآخر، تعافى الطالب البالغ من العمر 21 عامًا بعد عملية نقل الدم سريعًا، على الرغم من امتلاك كل منهما نفس فصيلة الدم من الفئة O؛ الأمر الذي ترك الأطباء في مؤسسة «بوغدانوف» في حيرة حول السبب الذي أعياه هكذا.

يفترض الأطباء حاليًا أن المشكلة لم تكن في عملية نقل الدم الأخيرة تلك، والتي كانت التجربة 12 التي أجراها «بوغدانوف» على نفسه، لكن في الإحدى عشرة عملية نقل دم التي قام بها سابقًا. من الممكن أن تكون إحداها قد جعلت جسده يقوم بتكوين أجسام مضادة، تفاعلت بشدة مع الدم الجديد الذي استقبله.

كان «بوغدانوف» يطمح أن تمنحه عمليات نقل الدم حياةً طويلة، إلا أنه لم يُفلح في خداع الموت وداهمه سريعًا. رغم ذلك، ساهمت تجاربه في وضع خلفائه من الأطباء في روسيا، في طليعة مجال تطوير خدمات نقل الدم.

___
*المصدر: ساسة بوست

شاهد أيضاً

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته

ابن ملكا البغدادي.. سبق غاليليو ونيوتن باكتشافاته يقطان مصطفى منذ منتصف القرن الحادي عشر وحتى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *