القاهرة- «ريتشارد فاجنر» فنان متعدد المواهب، تقودنا إليه طرق مختلفة، فهو الشاعر الذي كتب نصوصه الأوبرالية، وهو الموسيقي الذي صاغها، وجدد فيها، وصنع قوالبها، وهو المفكر الذي يطالعنا بالرأي والنقد والحوار، وكان له في عصره علاقاته المثيرة بالفنانين والأمراء والفلاسفة، ومنها علاقته بالفيلسوف نيتشه، صاحب «مولد التراجيديا من روح الموسيقى» وعلاقته بالملك البافاري الذي فتح له خزائن البلاد، فأتاح له ما تاق إليه، ليخرج أعماله في الصورة التي ترضيه.
ومن سوء الطالع أن هتلر كان شديد الإعجاب به، فقد اهتم فاجنر بالتراث الجرماني، وأدخل إلى عالم الأوبرا من مواد هذا التراث ما لم يدخله غيره، وربما أعجب هتلر بالمقال الذي كتبه فاجنر في صورة من الانفعال والغضب عن اليهود والموسيقى، وكان من الممكن أن تسيء الدعاية النازية إلى صورته في المستقبل، لكنه تجاوز هذه المحنة في مختلف ربوع العالم.
يقدم مصطفى ماهر ترجمته لأوبرا فاجنر «بارسيفال» بالقول : «لسنا ممن يظنون أن هناك سبيلاً واحدة لفهم فاجنر، وإنما نرى أن الخير أن نسلك إليه سبلاً متعددة، فنحن نوفيه حقه عندما ندرسه من منظور العمل الفني المتكامل الذي يضم الكلمة واللحن والصورة والفكرة والخلفية الأسطورية، في كل متكامل، لكننا نفيد أيضا عندما ننظر إليه من منظور حياته ونشأة أعماله في ظروف معينة، ترتبط بمناخ فكري وزمان ومكان وبشر، وكثيراً ما يقارنه الكتاب بموتسارت الذي كان واسع الحظ من الوحي والموهبة الشخصيتين، فبينما كان موتسارت تأتيه الموسيقى طائعة خاضعة، كان فاجنر يبذل الجهد أشد الجهد ليمسك بالموسيقى ويخضعها».
ولد فاجنر في 22 مايو/أيار سنة 1813 وكان الابن التاسع لرجل يعمل بالشرطة، وقد توفي بعد مولد الطفل بخمسة أشهر، وابتداء من عام 1831 تعلم فاجنر الموسيقى، وفي عام 1833 بدأت موهبته تكتمل فألف أول أوبرا هي «الجنيات» التي لم تخرج إلى الجمهور إلا بعد وفاة فاجنر بخمس سنوات، وأمضى الفنان الكبير هو وزوجته في باريس عامين ونصف العام من 1839 إلى 1842 في ضيق وضنك، وعانى من الجوع والبرد والمذلة، ولم يجد في فرنسا أحداً يشجعه، وكان قد ألف أوبرا مستوحاة من مسرحية شكسبير «دقة بدقة» لكنها لم تحقق نجاحاً ملحوظاً، ولقيت أكثر من أوبرا نفس المصير.
وعلى الرغم من ذلك أصبح فاجنر شخصية مرموقة في المجتمع، حيث شغل منذ عام 1943 منصب رئيس الفرقة الموسيقية الملكية بالبلاط السكسوني، ولما قامت ثورة 1949 في ألمانيا شارك فيها مشاركة الفنان والشاعر والمفكر القلق الباحث عن معايير جديدة ونظام أفضل، وتحزب للجمهوريين ضد الملكيين، وعبر عن شيء من هذه المضامين في أوبرا «لوهنجزين» التي نشر نصها الشعري عام 1850.
وتعرض فاجنر إلى الفوضوي باكونين وشارك في نشاط الفوضويين وفي الإضرابات التي شهدتها دريسدن في عام 1849 والتي واجهت فيها الجماعات الثورية القوات السكسونية والروسية، وفشلت هذه الانتفاضة، وبدأت ملاحقة المسؤولين عنها والمشاركين فيها، ومن بينهم فاجنر الذي هرب إلى سويسرا وعاش هناك عشر سنوات، غارقاً في الكتابات النظرية، ومنها «فن المستقبل» و«بيان إلى أصدقائي» و«أوبرا ودراما» وخلاصة هذه الكتابات أن فاجنر أصبح على بينة من شكل ومضمون الأوبرا التي أرادها مختلفة عن الأنماط القائمة حتى ذلك الحين.
كانت الموسيقى بالنسبة إليه هي الفن الشامل القادر على التعبير عن جوهر الإنسانية الخالص، الذي يكمن في الأسطورة، وكان يرى أن التعبير الشامل يتطلب الجمع بين الفنون كلها، الكلمة واللحن، الرقص والحركة والتصوير، وكان يؤمن بأن هذه المعوقات كلها ينبغي أن تتجلى في المسرحية الموسيقية التي تراها العين وتسمعها الأذن، وكان يتصور أن العمل الفني لا يباعد بين الفن والشعب، بل يضمهما معاً، وأنه لا ينأى بالفنان عن المجتمع أو بالمجتمع عن الفنان، بل يؤلف بين الفنان والمجتمع.
عاش فاجنر سنوات النفي في زيوريخ، وأنجز عدة أوبرات منها «تريستان وإيزولده» التي قال عنها نيتشه إنها بمثابة أعظم عمل شهده تاريخ المسرح الموسيقي إطلاقا، إنه عمل أقل ما يوصف به هو أنه يستهل عصراً جديداً، فقد عبرت هذه المسرحية الغنائية التي اجتمع فيها الحب والموت على نحو فريد عن أسمى وأعمق تصعيد للحنين الرومانتيكي إلى الليل فإذا هو يصبح إشراقة تنويرية نهائية.
ارتبط فاجنر بفلسفة شوبنهاور واستخلص منها أن الدافع الحيوي العارم الذي يحرك الإنسان في الدنيا هو أصل كل شر في الوجود، كما استخلص منها أن على الإنسان أن يرفض الإرادة المرتبطة بهذا الدافع رفضا، يسعى به إلى إعلاء الوجود المادي وإلى التغلب عليه أيضاً، وتغيرت حياة فاجنر بعد صدور العفو عن الذين شاركوا في ثورة 1848 وسمحت له السلطات بأن يعود إلى ألمانيا.
ظل فاجنر مشغولاً بموضوع «بارسيفال» أكثر من 40 سنة، وتناول المادة بالصياغة الشعرية في ربيع 1877 وفي عام 1882 أتم الموسيقى، وبدأ موسم العروض الاحتفالية، ليقدم بارسيفال إلى الناس، ويذكر المؤرخون أن قائد الأوركسترا كان «هرمان ليفي» موسيقار يهودي، ويدللون بذلك على مفهوم التسامح بخاصة بالنسبة لهذا النص الذي يعبر عن مضمون مسيحي صوفي، يختلط بمفاهيم إنسانية مستقاة من الفكر الإسلامي، وتكرر العرض بنجاح 16 مرة.
استقى فاجنر مادة بارسيفال من الأدب القصصي الوسيط وهي مادة غنية، شاركت في إبداعها ثقافات العالم القديم كله، وكأنما جلب المبدعون معادن من الشرق والغرب فانصهرت معاً في بوتقة القيم الإنسانية الرفيعة، والموضوع المحوري هو سيرة إنسان اختاره القدر لمهمة بعينها، فنشأ ميسراً لما خلق له، وتحكي الملحمة كيف ارتقى المدارج من الفطرة إلى العلم، فتقلب بين الخطأ والصواب، ولما بلغ ما بلغ من الحكمة أصبح جديراً بسعادة الدين والدنيا.
__________
*الخليج الثقافي