*سليم البيك
هو واحد من الأفلام القليلة التي يمكن لها أن تلخص قمة المنجز السينمائي لألن، وهو صاحب السيرة الفيلمية الطويلة، المتعددة شكلاً ومضموناً والمقسمة لمراحل. قد يكون «آني هول» والأفلام المزامنة له (السبعينيات) فاصلاً بين الفترة الأولى لألن، حيث الكوميديا أولاً، وحيث يطغى الأساس الذي أتى منه ألن وهو الإضحاك (الستاند أب كوميدي)، والفترات اللاحقة (الثمانينيات والتسعينيات)، وأفلامه ما بعد الألفين التي صارت تتخذ منحى كلاسيكياً في السرد، مبتعداً عن التجريبية.
هنا، في هذا الفيلم الذي يكمل اليوم عامه الأربعين، استطاع ألن أن يوظف الأفضل في جانبه الكوميدي، كمسبب للضحك، والأفضل في جانبه السينمائي فيشتغل على الإخراج والمونتاج والسيناريو والكيفية التي يسرد بها حكايته.
الفيلم التجريبي لا يبدأ بموسيقى جاز، ولا بأحاديث تبدو آتية من منتصفها، كما سيعودنا في أفلامه اللاحقة، ولا بلقطات مبعدة للمكان، كما يفعل معظم المخرجين، مقدمين للمُشاهد نظرة عامة عن المكان الذي ستجري فيه الحكاية، بل بحديث مواجهاً فيه الكاميرا، يقدم الحكاية من خلال نكتتين «فلسفيتين» يمهد بهما لما سيأتي. وتقنية محادثة المشاهد بشكل مباشر ستتكرر في الفيلم، من قبل ماكس تحديداً (ألفي سينغر، الشخصية الرئيسية وأدى دوره ألن ذاته) الذي يحكي لنا عن علاقته بآني، منذ بدأت إلى أن انتهت، ماراً بمشاهد متفرقة من العلاقة تروي المصير المأساوي لها من خلال النكات، فيكون الفيلم من لقطته الأولى روايته هو لمشاكل العلاقة بينهما – لهذا أتت مضحكة- ما يجعل السرد ذاتياً، فالراوي هو إحدى الشخصيتين الرئيسيتين.
الفيلم أشبه بما يُعرف بـ «تيار الوعي» في الأدب، أي تتداعى الأفكار والمَشاهد كالذكريات، تتلاحق بدون أن تكون مرتبطة ببعضها بعضا بالضرورة، لتحكي معاً، بشكل متفرق، شظايا من علاقة ماكس بآني، دون أن تُقدم بتراتب زمني، بل تتتابع كأحاديث ماكس إلينا، كمشاهدين، أحاديث وذكريات تخرج من أخرى، تتقافز في الزمن إلى أن يروي لنا كيف انفصلا. هذا الأسلوب في السرد هو عمل المونتاج، ومونتاج الفيلم هو أحد أبرز ميزاته. ومن ميزاته كذلك الحوارات، فهو فيلم مبني على الحوارات، متقطعة كأنها اسكتشات كوميدية، معظم حديث ماكس يأتي ساخراً أو ممازحاً أو على شكل نكات، في وقت يكون فيه حديث حبيبته، آني هول، جدياً ومستوعباً له إلى أن تتغير تدريجياً، من البرود الجنسي إلى هجره هو ومدينته نيويورك، إلى لوس أنجليس حيث وجدت من ينتج لها ألبومات غنائية، فلا تعود تغني في البارات التي بدأت الغناء فيها وقد كان ماكس واقفاً إلى جانبها.
الفيلم كوميدي بامتياز، وإن كانت النهاية تراجيدية بالنسبة لماكس. لكنه كذلك فيلم رومانسي بامتياز، هو حكاية حب تبدأ وتستمر إلى أن ينتهي الفيلم بانتهائها، نرى فيها حباً صافياً من جهة ماكس، حباً مغلفا بالسخرية لا نشعر بألمه إلا أخيراً، حين نراه حزيناً، خائباً، وقد تركته حبيبته. لكن بدون أن ننسى أننا نستمع إلى روايته هو، وليس هي، لما حصل. وهي ليست رواية حيادية. في المشهد الأخير مثلاً، نراه يشرف على أداء نص لمسرحيته الأولى بعد انفصالهما، والمسرحية تحكي قصة حبهما، نشاهد المشهد الذي تتركه فيه، في المطعم، نراه في المسرحية التي كتبها قد غير فيها، فيكون هو من تركها وليس العكس، وهي، المسرحية، نسخة أخرى معدلة لقصة الحبيبين.
التجريبية في الفيلم تعدت بدايته والمونتاج على طوله، إلى العديد من مشاهده، كالمشهد الذي تنقسم فيه الشاشة إلى اثنتين: كل من ماكس وآني عند الطبيب النفسي، كل منهما يحادث الطبيب كأنه يرد على الآخر. وكذلك مرافقة أحاديثهما، في مشهد آخر، بكلام مكتوب أسفل الشاشة، يعبر عما يريد فعلاً أحدهما أن يقوله، عما هو خلف ما يتلفظ به من كلمات، وذلك في لقائهما الأول الذي ستبدأ منه حكاية الحب المؤلمة والمضحكة في آن.
ليس في الفيلم حكاية تقليدية، أو ليس فيه سرد تقليدي للحكاية، وهذا ما يعطي أهمية لما يحصل أمامنا بمعزل عما يمكن أن ينتج عنه، فالمشاهد التالية لن تكمل ما سبقها، ولن تعتمد عليه، أما النتيجة النهائية فنعرفها مسبقاً وهي الانفصال بين ماكس وآني. القصص القصيرة جداً التي يشرح مجموعُها لمَ حصل الانفصال، هو ما نشاهده.
قد يكون الفيلم، «Annie Hall» (1977)، تمثيلاً مباشراً لألن نفسه، وحكاية الحب التراجيدية تمثيل لحكايته في الواقع مع ديان كيتن التي أدت دور آني، إذ كانت تجمعهما علاقة انتهت قبل تصوير الفيلم بأعوام.
الفيلم الذي أظهر ألن في قمة إبداعه السينمائي، فاز بأوسكار أفضل فيلم وأفضل إخراج وأفضل سيناريو (شارك هو في كتابته) وأفضل دور نسائي (ديان كيتن)، كما فاز بجوائز مماثلة في محافل أخرى عديدة.
______
*القدس العربي