أول ماعلمت أن فاديا حصلت على جائزتها الأولى، ظننت أن ذلك لا يعدو كونه تشابها في الأسماء. منذ معرفتي بها قبل سنوات، بل قبل عقود، لم يتهيأ لي أن هناك صلة ما بينها وبين الكتابة. لا أعرف مثلا علاقة لها بالكتب، أو معرفة بالكتّاب، بل ولم يسبق لها، في ما أحسب، أن كانت لها كتابات أولى، أو أوراق احتفظت بها لنفسها، خافية إياها عمن هم حولها. فجأة بدأت فاديا تكتب، وهي في ذلك العمر الذي تنتهي فيه أسئلة المرء عن أي الطرق ينبغي له أن يسلك، وماذا عليه أن يكون.
وإذ توالى ما تنشره، ودائما على الفيسبوك، راحت تتوالى الجوائز والدروع والتهنئات الكثيرة، وطبعا على الفيسبوك أيضا. ما راحت تحثّنا عليه إذن، ليس فقط أن نتابع ما تنشره، بل أن نتابع ذلك العالم المحيط بها ككاتبة، أو شاعرة، طالما أنها التزمت نسقا كتابيا يعود إلى شعر الهايكو الياباني، الذي بات معروفا بين القراء العرب منذ أن جرت ترجمته، أو إعادة ترجمته، في ثمانينيات القرن الماضي. كانت تكثر من نشر مقطّعاتها الصغيرة، على مثال ذلك الشعر، متفرّقة حيث الكلمات السبع أو الثماني، وهي كلمات المقطع الشعري، كافية لنقل ما بات يسمّى، مع اتجاهات الفيسبوك الجديدة وتسمياتها، «الومضة الشعرية». وكنت، في أثناء ما أقرأ، أتساءل إن كان يمكن لفاديا أن تخرج من هذا النسق نحو أن تكتب شيئا متتابعا، قصيدة مثلا، حتى إن تألفّت من مقطّعات يوحّدها سياق. وقد حصل ذلك، وإن ظلّت بنائيّته من ضمن شعر الهايكو:
«ظلّ مكسور/ جدي دون/ عصاه»
«شجرة العائلة/ أغصان مكسورة/ أوراق تتساقط»
«شجرة العائلة/ طرابيش تركية/ قبعات فرنسية».
وما فتئت مروحة القرّاء («المتابعين» لها) تتسع. في البداية ظننت أن من تدور بينهم هذه الكتابات هم مجموعة أصدقاء على الفيسبوك تجمع بعضهم معرفة شخصية بفاديا، لكن ما لبثت أن عرفت أن ذلك المجتمع الشعري متسع إلى حد يتجاوز ما تبلغه الكتب الصادرة عن دور النشر، بما فيها تلك التي تحصل على جوائز إقليمية أو عالمية. هؤلاء الكتاب الفيسبوكيين، بخلاف ما قد يذهب الظن من ضيق مجال عارفيهم، موجودون في جمعيات لها فروع، وإن من دون مكاتب أو مقرات أو لجان تأسيس، في بلدان عربية عدة. وفاديا تتلقى جوائزها من هناك، ومن هناك (من الأردن أو مصر أو السعودية أو المغرب أو لبنان) تأتيها الرسائل النصية بتبادل النصوص بينها وبين شعراء وشاعرات جدد، كلهم من خارج الأسماء المعروفة الشائعة.
وهذه الجمعيات، في المواقع التي تعرِّف بها، تدرك أنها تبدأ عهدا جديدا في الكتابة هو ذاك الذي «تتطلّبه الحياة المعاصرة، وذلك لطبيعة المواقع الأدبية الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعي الكثيرة التي احتضنت النصوص القصيرة، الشعرية منها والقصصية». هو عهد جديد إذن أعلن عن بدئه، منتقدا، على غرار كل جديد، ما كان قد سلف. كما أن هذه الكتابة الجديدة المقترحة لا تكتفي بالخطوط النظرية العريضة في تعريفها عن نفسها، بل إنها، في ما يشبه البيان التفصيلي، تدخلّت في ما ينبغي اتباعه وما ينبغي إهماله في الكتابة، سواء تعلّق ذلك باللغة، أو الأفكار، أو ما يجب حذفه مما تحفل به الكتابات التقليدية، من غلبة الحركة على الجمود، واطّراح ما لا لزوم له من كلام، وأن يكون الفعل في النصّ حاسما وواقعا فعلا لا تسبقه تعابير مثل «يبدو» أو «ربما» إلخ.
ومما يُعلن في البيان أيضا هو التقريب بين القصة والشعر واندماج الثانية بالأوّل. كلاهما يحمل الانتباهة المفاجئة التي تبرق، أو تومض، في كل من النصّين الصغيرين. أكثر النصوص يمكن ردها إلى الفنّين معا: الهايكو والومضة القصصية، مثلما نقرأ لأسمهان الفالح: «أمطرَها بنظراته؛ تفتحت أكمام الشوق الغافية»، أو لفهد العزب: «كلما قالت الأم لطفلها الكفيف: أطلق عصفورك من قفصه، يجيبها: لا، سيتوه في العتمة».
وفي عودة إلى القصة يعيّن التعريف «إن الفرق بين القصة القصيرة والقصة الومضة قائم في كلمة «جدّا». وفي وصف الومضة نقرأ في ذلك التعريف: نصّ صغير حجما، لكن وقعه كبير فعلا كالرصاصة وصرخة الولادة وكلمة الحق». هذا ما يدعو إليه موقع «فن القصة الومضة» المتفرّع إلى بلدان عربية عدة، والراجع في تأسيسه النظري إلى تجارب سبقت، حيث عُرف، في الولايات المتحدة، باسم «فلاش»، وفي أمريكا اللاتينية باسم «ميكرو».
كتب ومجلات تصدرها هذه المواقع، وجوائز ودروع توزّعها، وكل ذلك يبقى خارج ما كان يستقي جيل الكتابة السابق معرفته منه، كالصحف وأجهزة الإعلام العامة، وكذلك المراكز الثقافية المختلفة. لا أعرف إلى أي حدّ معروفة هذه المواقع لغير روادها، التي هي «نادي الهايكو العربي» و«الديوان وطن الضاد» «ومنتدى السياب الثقافي» ثم «فن القصة الومضة» إلخ.
نعرف أن لا جديد في النظرية، فقد كان سابقون على زمن وسائل التواصل الاجتماعي قد كتبوا نصوصا إبداعية وتعريفية لهذه الأنواع من الكتابة، لكن سوى ذلك، هناك جديد كثير في ما نتعرّف عليه الآن. من ذلك مثلا أن تصبح الكتابة وانتشارها متاحين لمن هم، أو لمن هنّ مثل فادية.
_________
*القدس العربي