*أنطوان شلحت
يتميّز المخرج والناقد السينمائي الفلسطيني جورج خليفي (1947) بمواكبته للسينما الفلسطينية التي باتت مهنيّة منذ أن أنهى دراسته السينمائية في بلجيكا وعاد إلى فلسطين عام 1984. وفضلًا عن مشاركته طوال هذه المُدّة في رفد هذه السينما بعدد من الأعمال إخراجًا وتمثيلًا وإنتاجًا، ولا سيما مع شقيقه الأصغر المخرج ميشيل خليفي، فإنه أمدّ المكتبة السينمائية بكتب تتناول تاريخ هذه السينما ووقائع تقصّي الذاكرة والمدى فيها، ومساهمتها في بناء السردية والخطاب الفلسطينيين.
شارك جورج خليفي عام 1992 في إقامة “مؤسسة القدس للسينما والتلفزيون” التي كانت أول مؤسسة بادرت إلى تدريس كوادر مهنية للتلفزيون الفلسطيني. وتمّ حلّ هذه المؤسسة عام 1996 وأقيم مكانها معهد الإعلام العصري في جامعة القدس ومن ضمنه تلفزيون القدس التربوي. وقد شغل لعدة أعوام منصب نائب مدير هذا المعهد ومسؤول الإنتاج والتدريس فيه.
هنا الجزء الأول من حوار معه يتطرّق إلى أبرز ما أنجزته السينما الفلسطينية خلال مسيرتها وإلى المراحل التي مرّت بها وصولًا إلى الزمن الحالي، كما يتناول بدايات هذه السينما وأهم عوامل نجاحها:
(*) سؤال: هل بإمكاننا الحديث عن “مرحلة جديدة” في السينما الفلسطينية؟ إذا جاز مثل هذا الحديث فما هي منطلقاته؟ وما هي أبرز ملامح هذه المرحلة قياسًا بما سبقها من نتاجات هذا السينما؟
– الجواب عن هذا السؤال هو في الواقع موضوع لبحث مطول، ويصعب ضغطه في الإطار الضيق لمقابلة صحافية. مع لك سأحاول التعرض باختصار للموضوع.
تواكب السينما الفلسطينية الحدث الفلسطيني إلى درجة أن بعض الباحثين يقولون إنه من الممكن الإطلاع على تاريخ الفلسطينيين الحديث من متابعة السينما الفلسطينية. وليس الحدث وحسب، بل أيضا الأسس الفكرية السائدة، وتطوراتها.
فمثلا الأساس الفكري لسينما المرحلة البيروتية يشدد على كون السينما جزءًا لا يتجزأ من الثورة الفلسطينية، ومن منظمة التحرير، ويضع للسينما أهدافا واضحة، وردت في أدبيات الأطر السينمائية نفسها كما في أعمال نقاد المرحلة وباحثيها، على غرار: “الكشف عن الأسباب الحقيقية للوضع الذي وصلنا إليه، ووصف مراحل النضال العربي الفلسطيني لتحرير أرضنا”. وأيضًا: “السينما هي الأداة لوصف وضع الشعب وتحليله، لشرح الماضي والتبشير بالمستقبل” و”إيصال القضية الفلسطينية للعالم وشرحها”.
وكانت إحدى المهمات الرئيسية للثورة الوليدة في الستينيات والسبعينيات: إعادة توحيد الشعب، الذي فرقته المنافي، والهويات الفرعية (الجهوية، العشائرية، السياسية…) تحت شعار: نحن أبناء شعب واحد ونكبة واحدة، ونضال واحد من أجل العودة… كان من مهماتها أيضًا الحفاظ على الذاكرة، وتوثيق النضال اليومي لاستعادة الكيان المفقود. وكذلك توثيق التحول الذي طرأ على صورة الفلسطيني من اللاجئ المقموع إلى الفدائي الذي يأخذ مصيره بيديه، ويقاتل من أجل تحرير نفسه تمهيدًا لتحرير الوطن.
في مثل هذه المهمات، لا مكان للقصص الشخصية، وكامل المساحة يتم تكريسها لرواية قصة المجموع. لا مكان للنظر إلى داخل المجتمع، وتفكيكه، لأن مهمة الساعة هي التوحيد.
وبالطبيعة تبنت السينما الفكر الثوري، وتعبيراته الشعرية، وأبرزتها في أكثر الأشكال ملاءمة لها: الشكل الوثائقي النضالي.
سينما المرحلة البيروتية
(*) سؤال: دعنا نتوسع في الحديث قليلًا عن سينما المرحلة البيروتية وأهم خصائصها وما الذي تلاها من مراحل بارزة؟
– ولدت سينما المرحلة البيروتية من رحم التنظيمات الفلسطينية. لم يبق تنظيم من تلك التي تشكل منظمة التحرير الفلسطينية، إلا وأسس لنفسه جسمًا يهتم بإنتاج الأفلام. هذا واقع كانت له محاسنه وأيضًا مضاره على السينما التي أنجزت ضمنه، فمثلاً كان هذا الواقع يضمن للسينما تمويلاً، وإن كان شحيحًا، إلا أنه يؤمن استمرارية ما، وفعلا أنتجت هذه السينما في مدى أكثر قليلاً من عقد واحد من الزمن، حوالي سبعين فيلمًا، كلها وثائقية ما عدا أحدها (فيلم “عائد إلى حيفا” لقاسم حول، 1982). لكن لكون السينما تنافسها أولويات أخرى كثيرة في سلم التنظيمات، فقد بقيت تعمل بإمكانيات حد أدنى، بالإضافة إلى نقص الخبرة لدى السينمائيين.
أفلام هذه المرحلة كانت متفاوتة وكذلك كان حكم النقاد عليها، بعضهم يقيمها عاليًا، ويعطيها اسم “سينما الثورة” والآخرون، أقل اقتناعا بها، يسمونها “أفلام التنظيمات”.
في الثمانينيات حدث تحول نوعي: انتهت مرحلة “سينما الثورة” مع الخروج من بيروت، وتفرق سينمائيوها (وإن كان إنتاج أفلامها قد استمر بشكل متقطع لسنوات تلت). ولدت – بالتوازي- سينما أخرى، مع إنجاز فيلم “صفحات من مذكرات خصبة” لميشيل خليفي (1980).
تميزت السينما الجديدة بثلاثة أمور رئيسية:
الأول، أن الظروف- كون سينمائييها من داخل الوطن المحتل- حتمت فك الارتباط بين السينما والمؤسسات الفلسطينية، وجعلت السينما ترتكز إلى المجهود الفردي لمبدعيها، فالسينمائي يكتب سيناريو فيلمه، ويجوب الأرض لجمع التمويل له- غالبًا من مصادر خارجية- ويكون على الأغلب المنتج الأعلى له، غالبًا من خلال جسم إنتاجي يؤسسه للغرض، ويقود التصوير- ما قبله وما بعده- حتى إنجاز الفيلم، ثم يعود ليجوب البلاد للترويج.
الأمر الثاني أنها نشطت على الأرض الحقيقية، في المكان الفلسطيني نفسه، مما أدى إلى أن تتعامل مع الحياة الحقيقية التي تضطرب فيه، الآن وهنا. وهكذا تصاعدت أهمية المكان – الأرض – في الأفلام، حتى أصبحت – في بعض الأفلام- شخصية رئيسية في الفيلم.
الأمر الثالث أنها بدل أن تروي قصة المجموع، أخذت هذه السينما تروي قصص الأفراد، ومن خلال العشرات منها تروي القصة الجماعية. أخذت تنعم النظر داخل المجتمع، تتأمله، تفككه إلى ما فيه من تمايزات وتناقضات، لكنها تعود إلى توحيده ضمن ثوابته العميقة: الأرض، الصمود، المقاومة، وحدة الشعب والمصير..
حقبة التسعينيات جاءت بصدمة أوسلو، التي ما كادت تولد حتى دخلت في احتضارها الطويل الممض الذي أوصلها إلى الانتفاضة الثانية في مطلع العقد الأول من القرن الجديد.
ومع تصاعد المقاومة في الانتفاضة الثانية، واشتداد الضائقة، وبروز الحواجز التي تقطّع أوصال المكان، ومع تصاعد القمع الدموي من قبل المحتل، أخذت المقاومة تتصاعد وتزداد عنفوانا. ومع هذا عادت تزداد صعوبة حفظ الأفلام للتوازن بين الخاص والعام، الشخصي والقومي، وعادت القضايا الفردية تذوب داخل بوتقة المصير القومي المشترك.
لكن الانتفاضة الثانية بدأت تضمحل، وتعود إلى البروز آثار التحول الذي جاء به أوسلو: الكوادر الثورية تتحول إلى وزراء ووزارات، والكتائب المقاتلة إلى أجهزة أمن، ووحدة المصير إلى صراع على السلطة، يوصل إلى الصدمة الكبرى: الانقسام. والانقسام يوصل إلى الاقتتال، مع كل ما رافقه من بشاعة دموية.
وتقف السينما، كما الناس، مذهولة أمام ما يجري. تتزلزل تحتها، كما تحت الناس، الأرض الصلبة التي وقفت عليها منذ بدايات القضية: الثقة أنه مهما يحدث، فالهدف هو التحرير، والطريق إليه تمر عبر ما أجمع الفلسطينيون على أنه ثوابت القضية وعلى رأسها وحدة الشعب.
في أفلام السنوات الأخيرة، يجد البطل نفسه يقف في مواجهة هذا الواقع الملتوي، لا يفهم ما يجري. ويزداد إحساسه بأنه يقف وحيدًا، حتى عندما يكون جزءا من جماعة ما.
واقع جديد
(*) سؤال: ذكرت أن الوطن والوحدة الوطنية كانا في صلب العمل السينمائي إبان فترة سينما الثورة، وأن سينما الثمانينيات والتسعينيات حتى وإن فككتهما من زاوية التناول على الأقل ظلت تحرص على إعادة بنائهما أصلب مما كانا عليه. فكيف يبدوان في الواقع الجديد الذي تقف السينما إزاءه؟