كلاب الفوهرر

*خيري منصور

حين تساءل الكاتب والروائي غونتر غراس عن مصير كلاب الفوهرر المدللة، ترك للآخرين حصتهم من السؤال عن مصائر المقربين من هتلر، بدءا من الرقيب غوبلز وليس انتهاء بالدكتور مايلور مرورا بالجنرالات.
فما أن يسقط نظام حتى يتساقط معه مدفوعو الأجر من المسبّحين بحمده، لكن الإضاءة كلها في مثل هذه المشاهد الدرامية تكون على السياسة ونادرا ما يتعقب الناس أخبار من كانوا نجوما ساطعة في ظلام الاستبداد، وهؤلاء الذين أطلق عليهم علي الوردي اسم وعّاظ السلاطين، هم بشكل أو بآخر كلاب الفوهرر، وغالبا ما تكون جدارتهم الوحيدة في الولاء، لأنهم ببغاوات تردد الصدى، فإن قيل لهم صباحا إن الارض كروية وتدور طبلوا لهذه الحقيقة الفيزيائية، وإن قيل لهم مساء إنها مستطيلة أو شبه منحرف وواقفة مكانها زمّروا، لأن الأهم بالنسبة إليهم هو القائل لا المقول، وذلك من صميم ما سماه الأنثروبولوجست بيير كلاستر نفوذ الكلام، حيث تنسب الأهمية لمصدر الكلام وليس لمنطقه، وعلى الرغم من أن وعّاظ السلاطين أو الزمارين كما تسميهم فرانسيس سوندرز في كتابها من «دفع للزمار» عن الثقافة في الحرب الباردة، يدركون أن مصائرهم لن تكون استثناء من مصائر سلالتهم عبر مختلف العصور، إلا أنهم يعصبون عيونهم عن الحقيقة، ويحاولون قدر المستطاع الادخار وتقليد البعير في تربية وتنمية سنام ينفعهم في الأعوام العجاف، وهم يصابون بالعمى لفرط إحساسهم بعدم الاستحقاق، وتلك حالة تحدث عنها برنارد شو في مقدمة إحدى مسرحياته، وخلاصتها أن من يشعر باللااستحقاق يكون فاقدا للمناعة بكل أبعادها النفسية والأخلاقية والثقافية، لأنه يدرك أن ما ظفر به ليس من حقه، وأن ما تقاضاه من ثمن هو مقابل تحوله إلى ببغاء، أو رجل اسمه نعم.
وقد تكون مثل هذه الظواهر الثقافية عامة وعابرة للأزمنة والأمكنة، لكنها في عالمنا العربي ذات تجليات من طراز غير مسبوق، لأن تغليب الولاء على الكفاءة أحدث خللا بنيويا وجذريا في معادلة الإبداع، وتصور البعض من الموهومين أن فرصتهم الوحيدة للثأر لأنفسهم من الموهوبين هي تحولهم إلى أدوات وقفازات وملاقط بأيدي الجلادين، وبدلا من أن يشعر هؤلاء بالخجل مما يمارسون تأخذهم العزة بالآثام كلها وليس بأثم واحد، ويتمادون في إنكار الواقع وإسقاط تفكيرهم الرغائبي عليه، فلا يرون غير ما يريدون رؤيته ولا يسمعون غير صدى صوت السيد أو ولي النعمة الذي في إحدى يديه عصا غليظة أو مسدس وفي الأخرى حزمة جزر وليست جزرة واحدة.
أتساءل أحيانا باندهاش كيف لم تستوقف الأحداث الجسام التي عصفت بالواقع العربي تلك السلالة، بحيث تتأمل مصيرها ولو لدقيقة واحدة، خصوصا بعد أن شاهدنا بأم العين من كان يعطي وهو يتسول، ومن كان مطاعا وهو مطيع ومن كان رقما صعبا يتحول إلى صفر.
لقد كتب الكثير عن محاصيل الشقاء والحصاد المر للاستبداد في تاريخنا، بدءا من ابن خلدون حتى عبد الرحمن الكواكبي، لكن نادرا ما كان للثقافة باعتبارها الضحية الكبرى نصيب في هذه التراجيديا، ربما لأنها مهمشة أساسا أو غير معترف بجدواها، بالقدر الذي يبرر الكشف عن الخسائر الناجمة عن توظيفها المعكوس، بحيث تصبح طريقا معبدا إلى العبودية، بدلا من أن تكون طريقا وعرا إلى الحرية!
بالطبع لا أحد يعرف مصير كلاب الفوهرر المدللة وذات الرتب العسكرية، تماما كما أننا لا نعرف مصير الموظف المتخصص في العناية بأحذية رئيس مخلوع أو مقتول، لكننا نعرف إلى حد ما مصائر وعّاظ هؤلاء الذين احترفوا تبرير الخطايا وتمرير قطيع من الفيلة من ثقب أبرة، وإذا كان بعض هؤلاء قد ظلوا على قيد الحياة فذلك لكي يتاح للناس أن يعاقبوهم على كل ما اقترفوا، سواء بالتجاهل أو التهميش أو الاعتذار، وإعادة الاعتبار لمن كانوا من ضحاياهم لبعض الوقت.
تلك السلالة لم تتلقح، رغم أنها لدغت من الجحور ذاتها مليون مرة، لأنها لا ترى أبعد من ظلها ولا نقول أنفها لأنه مجدوع، لهذا تتكرر التراجيديا على نحو كوميدي، ولو شئت الاقتراب أكثر لتساءلت أين ذهبت أطنان الورق الملوث بالمدائح؟ وأين هو أرشيف السادة الذين لم يثقوا بغير الدببة التي حرست نومهم وحين حام الذباب على أنوفهم رموها بالحجارة التي شجّت رؤوسهم ولاذ الذباب بالفرار؟
سواء كان اسمهم كلاب الفوهرر أم تنابلة السلطان أم الوعاظ، فإن المسمى يبقى واحدا، وهو ثأر الولاء الأعمى من الكفاءة البصيرة، كم خسرت ثقافتنا العربية نتيجة الإصابة الوبائية بهذا الداء، وهل لدينا أمصال تكفي لتلقيحنا ضد التكرار؟
______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *