فصول من كتاب الحياة السّعيدة: البحث عن الاكتفاء في العالم الحديث للكاتب ديفيد معلوف (8)/الأخير
سبتمبر 5, 2017
*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي
أقدّم أدناه القسم الثامن ( وهو الأخير ) من سلسلة ترجماتي لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره ( ديفيد معلوف ) في مجلة ( Quarterly Essay ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011 ، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .
المترجمة
الطريقة التي نحيا بها في وقتنا الحاضر – تتمّة
في العالم الكلاسيكي عنى موت الجسد إنطفاء العقل والجسد معاً وتحلّلهما إلى عدمٍ كامل ، والخوف الكامن وراء هذا العدم هو ماكان يستحوذ على إهتمام المدارس الفكرية الكلاسيكية التي سعت بلا هوادة في إيجاد علاج شافٍ لهذا الخوف عندما كانت تتناول موضوعة الموت . جاءت المسيحية من جانبها بحلّ جديد لهذه المعضلة من خلال فكرة خلود الروح في العالم الأخروي ( عالم مابعد الحياة الأرضية ) ؛ غير أن هذا الحل المسيحي المفترض لخوف الموت جلب معه خوفاً من نوع آخر – خوف الدينونة ؛ إذ مع وعد النعيم الأبديّ فيما بعد الموت كان أيضاً ثمة تهديد موازٍ بدينونة أبدية .
ولكن ماذا عن يومنا هذا ؟
بالنسبة لمعظمنا فإن إمكانية الموت أو الإحتضار ماعادت ذلك الهمّ اليومي المباشر ؛ فالطريقة التي نحيا بها اليوم باتت تحافظ على عُرفٍ سائد يقضي بالإبقاء على كل مالايختصّ بأمور الحياة والمعيشة اليومية خارج نطاق انشغالاتنا ، والموت ماعاد أبداً تلك الحادثة العائلية التي تحصل معظم الوقت ؛ فكبار السنّ وحديثو الولادة لم يعودوا يموتون في منازلهم ، وباستثناء الرعب المصاحب لحوادث السيارات القاتلة فإن الموت صار شأناً يمكن التعامل معه في وحدات العناية المركّزة النظيفة والهادئة والمعزولة بإحكام حيث الأجهزة الداعمة للحياة تتوهج وتهمهم حتى يرتسم الخط المسطّح معلناً الوفاة ؛ حينها وحسب يمكن إطفاء الأجهزة ثم ينهمك الجميع في الإجراءات الشكلية لمراسيم عزف الموسيقى الجنائزية المصاحبة لحرق الجثة ( أو دفنها ، المترجمة ) .
إنّ أسوأ مخاوفنا في أيامنا هذه ليس كون الموت ختماً نهائياً وحتمياً يقود الحياة إلى العدم ، كما هي ليست معاناة أهوال الإحتضار ؛ فثمة عقاقير يمكنها التعامل مع هذه الأوضاع ؛ ولكن صار الخوف الأسوأ هو أن تطول الحياة وتبلغ مدياتٍ نعجز معها على الوفاء بمتطلبات السيطرة على ملكاتنا العقلية أو قدراتنا الجسدية – هناك حيث ننزلق إلى نصف حياة أو – بوصفٍ أدقّ – موت إفتراضيّ ونحن لما نزل أحياءً !! ، ننزلق إلى وهدة ” طفولة ثانية ونسيان محض / بلا أسنان ، ولاعيون ، ولاقدرة على التذوّق ، وبلا أيّ شيء آخر … ” – تلك الوهدة التي يختم بها جاك* في مسرحية ( كما تحبّها As You Like It ) مداخلته الشهيرة بشأن ” تأريخنا البشريّ الغريب الحافل بالحوادث . “
إن مثل هذه الحالة ( الموصوفة أعلاه ) كانت بكلّ تأكيد نادرة الحدوث أيام شكسبير حيث معدّل متوسّط الأعمار المُتوقّعة كان دون الأربعين عاماً ؛ لكنّ شكسبير إستطاع بمخياله العظيم تصوّر تلك الحالة وكان مصدوماً بها إلى أبعد الحدود ، وكانت النتيجة أن ترك لنا ضمن فكره الموروث هذا الوصف الدقيق لما يراه الكثيرون هذه الأيام حقيقة مرعبة ، أو قد تكون بالنسبة للآخرين – على الأقلّ – إمكانية مصحوبة برعب لايقلّ في حجمه عن رعب الحقيقة الماثلة أمام الأولين .
إنه لأمر مقطوعٌ بصحّته ذاك الذي يقول أنْ لم يعُد ثمة الكثير ممّا يمكن أن نشكو بشأنه : أغلب الأمور التي جعلتنا تُعساء في سالف الأزمان باتت تخضع لتشريعات تحجّم تأثيراتها المؤذية ممّا تسبّب في تحسين الوضع البشري إلى حدّ كبير للغاية ؛ غير أن المؤثرات الخارجية ( في أشكالها الجديدة المتمايزة عن القديمة ) التي تحكم وضعية حياتنا باتت تبدو مغالية في غرابتها وقدرتها على جعل الكائنات البشرية تشعر بإنكفاء أكبر .
إنّ واحدة من النتائج المترتبة على النسخة الإيبيميثيوسية ** لحياتنا البشرية هي أن التأريخ بات صيرورة لانهائية لأنّ حاجاتنا لاتنتهي ؛ غير أن التقنية تكفّلت على الدوام بالوفاء بتلك الحاجات المستجدّة وبتوفير الحلول المناسبة لكلّ المعضلات التي خلقتها تلك الحاجات ، وهذا هو بالضبط ماهو خليق بالتقنية أن تفي به ، ولكن هل ستمضي التقنية دوماً في قدرتها هذه وبنجاح لم ينكسر يوماً ؟
التقنية في أيامنا هذه لها زخمها الطاغي كما لها غاياتها الخاصة ، والدماغ البشري لايفتأ يرتقي ولكن ليس بالقدر الكافي للإيفاء بمتطلبات الإنجازات التقنية التي تمطرها علينا التقنية كل عام ، وفي كل حين نشعر بإحساس بالعزلة وفقدان السكينة لايلبث يترسّخ يوماً بعد يوم سواءٌ واجهنا البيئة بكل معضلاتها العولمية ، أو سواءٌ كنّا منزوين في غرفتنا الصغيرة حيث نكتشف ( مثلما فعل باسكال من قبلُ ) أنّ السكينة لايمكن أن تحلّ في أرواحنا .
الكوكب – بالقياس إلى الأرض – مفهوم أبعد عن التعاطف وأقل تجاوباً مع القدرة البشرية على الإدارة : الأرض عنت دوماً المحاصيل الزراعية المحلية ومواسم الغلال والحديقة الملحقة بمطبخ المنزل والتي وفّرت للمائدة كل يوم الخبز والزيتون والخُضَر الطازجة ، كما عنت الأرضُ الفجرَ والغروب وتقلّبات الطقس الدورية التي عرفها الإنسان منذ أزمان موغلة في القِدَم ، وعنت الأرض كذلك سماء الليل المرصّع بالنجوم التي مثّلت غبطة الراعي مثلما عنت الأرض حمرة سماء الفجر التي هي إيذانٌ بالعمل للراعي ذاته .
الكوكب غَيْرُ الأرض : هو نسق يديم حياتنا لكنه بات يشهد مواتاً تدريجياً – نمط من الإحتضار البطئ الذي نقلق بشأنه ونرى أنّنا مسؤولون عنه ؛ ولكن ربما كان الكوكب يرتّب لواحدة من كوارثه العديدة القادمة والتي قد تكون مميتة لنا ولكلّ أشكال الحياة الأخرى المعروفة غير أنها بالنسبة للكوكب لن تكون بأكثر من محض طور إضافيّ في وجوده الذي جادت به الصدفة . نراقب يائسين ( ومن غير توقّع معونة منتظرة ) الغطاء الجليدي والمساحات الصقيعية العظمى وهي لاتفتأ تذوب شيئاً فشيئاً ، وننتحب في سياق مرثاة وجود الدب القطبي المهدّد بالإنقراض بمثل ماننتحب لخوفنا من إمكانية فشل تيار الخليج*** الدافئ في النهوض بمهمته المعهودة بتدفئة منطقة ( نيوفاوندلاند ) والجزر البريطانية ، ونراقب غابات الأمازون وهي تزداد إنكماشاً في الوقت ذاته الذي تتوسّع فيه مساحات الصحاري على نحوٍ غير مسبوق ، ويزادا قلقنا يومياً بشأن إمكانية إنتاج الطعام وتوفير المياه الصالحة في وقت يتضاعف فيه سكان الكوكب كلّ قرن تقريباً .
ثمة أيضاً موضوعة كانت تبدو متعايشة معنا بصورة طبيعية للغاية ولكننا بتنا ننظر لها اليوم نظرة جديدة تقوم على قدرة دورها غير المسبوق في التأثير على – ومن ثمّ تكييف – السلوك البشري ؛ تلك الموضوعة هي الدماغ البشري بكلّ تعقيداته الجوّانية التي باتت أحجية أكثر غموضاً من ذلك المفهوم الذي دأب كلّ من أرسطو ومونتين على وسمه بسمة العقل ، وبات الدماغ يحلّ محلّ العقل أكثر فأكثر ، ولم يعُد الدماغ تلك الكتلة الهلامية من ( المادة الرمادية ) بل صار شيئاً حياً هائل التعقيد في عمله ومُخرجاته ، وماعادت مناطقه المتخصّصة مساحة مقفلة معزولة – مثلما كانت أغلب مناطق أفريقيا في القرن التاسع عشر – بل صارت عرضة لأن تُرسَمَ تفاصيلها بالكامل وتُعرَضَ على شاشة عرض حيث يمكن أن نشهد على تلك الشاشة ألواناً براقة تمثّل إنعكاساً لتحفيز الدماغ بمُثيرات مختلفة ( العدوانية أو الغضب ) أو إستجابة لحالات سايكولوجية مثل الإكتئاب أو النشوة .
العقل ليّن مطواعٌ ، أما الدماغ فلايبدو كذلك ؛ إذ يمضي على الدوام في مساره الخاص الذي يحدّدُ أمزجتنا طبقاً للإشتباكات العصبية الهائلة في أدمغتنا وكذلك تبعاً لجريان الدم فيها والتغيّرات الحاصلة في التوازن ( أو عدم التوازن ) الكيميائي أو الهورموني ، وهكذا في الوقت الذي قد نتخبّط فيه ونحن تحت رحمة سطوة أدمغتنا فإننا نحاول دوماً أن نكون مسؤولين عن سلوكياتنا التي قد نعجز عن السيطرة الكلية عليها تبعاً لما نرغب .
أما بالنسبة للإقتصاد فإن التجسيد الجديد للسطوة التي كانت للقدر او الآلهة ( مثلما ذكرتُ من قبل ) بات يتمثّل في السلطة العالمية التي تتحكّم بحيوات العمّال الصينيين في المصانع القروية ، وعُمّال المناجم البرازيليين ، والأطفال العاملين في مزارع الكوكا في الغرب الأفريقي ، والعاملين في التجارة الجنسية في مومباي ، وسماسرة العقارات في ولاية كونيكتيكت ، والمزارعين مُربّي الماشية في أسكتلندة ، والأصوات غير المشخّصة في مراكز تبادل الاتصالات في بنغالور ،،،،،، الخ ، وراح الخبراء المختصّون يؤكّدون لنا بحسم ( حتى لو لم يكونوا مؤمنين بحقيقة مايحصل ) أن الأمور باتت مشتبكة وشديدة التعقيد وبلغت حدوداً متعاظمة من فقدان اللمسة الشخصية او القدرة على الإستبدال ، ولم يعُد في مقدورنا سوى التعايش معها حتى لو فكّرنا في تحدّي سطوتها يوماً ما .
الهوامش
* هو اللورد المستاء والمصاب بالكآبة السوداوية في المسرحية الشكسبيرية ( كما تحبّها ) . ( المترجمة )
** إيبيميثيوسEpimetheus: في الميثولوجيا الإغريقية هو أخ ( بروميثيوس ) وهما أبناء الإله ( لابيتاس ) ، والإثنان هما زوج من العمالقة اللذين يمثّلان البشرية ؛ إذ يعدُّ بروميثيوس مثالاً للعبقرية والذكاء في حين أنّ إيبيميثيوس يعدُّ مثالاً للحمق والسّفه . ( المترجمة )
*** تيار الخليج : تيارٌ مائي سريع مصدره المحيط الأطلسي ، ويمثل الطرف الشمالي الغربي من شبكة التيارات الكبرى التي تدور باتجاه دوران عقارب الساعة في المحيط الأطلسي ، ولتيار الخليج أثر مهم على المناخ والنقل البحري وتوزيع العناصر الغذائية والنفايات في المحيط الأطلسي . كان السياسي الأمريكي ( بنجامين فرانكلين ) هو أول من أطلق وصف ( تيار الخليج ) على هذه الدوامات المائية الدافئة . ( المترجمة )