*لوتس عبد الكريم
لم أكن أظن أن القلم يستجيب لى، ونحن نمر بأزمات وظروف صعبة، فأكتب عن الجمال الذى عشناه وأصبحنا نفتقده، ولكن الرغبة تتغلب فى استعادة الشعور بهذا الجمال، وما حفل به من ذكريات تحفِّزنا على الدفاع عن تاريخنا، وكيفية الاهتمام بالحفاظ على التراث.
فأم كلثوم وما حفل به تاريخها من العطاء، إذ هى قيثارة الله على أرض النيل الخالد، وصاحبة الصوت المناضل من أجل الحرية والسلام، وقد أهَّلها لذلك نشأتها الدينية، وحفظها القرآن الكريم وتجويده وإنشاد القصائد والتواشيح الدينية فى سن مبكرة؛ مما ساعدها على إجادة اللغة العربية نطقا وفهما، ويأتى بعد ذلك لقاؤها بأستاذها ومعلمها الشيخ أبو العلا محمد، وكان أول ما تغنَّت به من ألحانه قصيدة الشاعر أحمد رامى (الصب تفضحه عيونه)
ويقول رامى: «كانت أم كلثوم صوت حنان تشعر فيه بالصدى، وكان صوتها قادما من قلبها، وليس من الحنجرة، كانت تغنى لنفسها قبل أن تغنى للناس، ولقد كانت تبكى وتبتلع دموعها، وكانت راهبة فى محراب الفن، وتغنى كأنها تصلى»، ويقول محمد عبد الوهاب: «أم كلثوم ملامح عصر فى طريقة الغناء والسلوك والشخصية والخُلق، والمصرية، قدمت فنا بلا ابتذال، ورفعت أخلاقيات المهنة».
وأم كلثوم كانت هى الإتقان، والإتقان ليس كلمة تُقال، ولكنه حصيلة الدأب والكدح، ثم إن دافعه حب الفنان لفنه أكثر من أى شىء آخر، وعلى هذا المنوال يجب الاحتفال بأم كلثوم وفنها العظيم، فلا نكتفى بالعبارات الطنانة عندما تحل ذكراها كل سنة، ذلك أن الأمم المتحضرة لا تحتفى بعظمائها فى ذكرى مولدهم أو رحيلهم، بل تحيل منجزهم الفنى إلى تراث إنسانى حى على كل المستويات؛ حتى تتشربه الأجيال المتعاقبة، فليست هناك مناسبات خاصة؛ كى يستمع الجمهور إلى إبداعات باخ أو بيتهوفن أو موزارت، أما نحن فاحتفاؤنا بفنانينا العظام لا يحلو إلا فى ذكرى رحيلهم لمدة طويلة؛ حتى يصاب الجمهور بالملل، وقد يقول قائل إن أغانى أم كلثوم لم تعد تناسب الإيقاع السريع اللاهث لهذا الجيل؛ نظرا لطول المدة التى تستغرقها.
لكن الرد العلمى على مثل هذا القول أن الفن الأصيل ليس مجرد ترديد لإيقاعات العصر، بل هو إعادة صياغة لها وتنظيم للمشاعر والأحاسيس التى تجتاح الإنسان وقد تصيبه بالقلق والاكتئاب.
على هذا المستوى لم تكن أم كلثوم مجرد مطربة قديرة، بل كانت ظاهرة ثقافية حضارية، فلم يحدث فى تاريخ الغناء العربى وربما العالمى أن ظهرت فنانة استطاعت أن تتربَّع على عرش الغناء أكثر من نصف القرن مثل أم كلثوم. وفى حديث إذاعى مع أم كلثوم يأتى ذكر الأغنية الوطنية، وإذا بها تذكر قصيدة «النيل» لأحمد شوقى ومن ألحان رياض السنباطى؛ مما يدخلها فى إطار الوطنيات صورة لأعلى مراتب الحب، حينما يصير تضحية بالروح وفناء كاملا فى المحبوب، إن صورة العذراء المصرية التى تعيش طوال العام على أمل أن يقع عليها الاختيار؛ لتكون عروسا للنيل، فإذا تحقق أملها فى المجد الرفيع، وزُفَّت وسط التصفيق والزغاريد إلى النيل ملك الملوك ألقت نفسها إلى أمواجه؛
وهنا يأتى اختيار أم كلثوم لشخصية رابعة العدوية – شهيدة العشق الإلهى – من شعر طاهر أبى فاشا ولحن رياض السنباطى تنشد أم كلثوم:
خلوت إليك يا ربّى وقلت عساك تقبلنى
فما بالى أرى ذنبى وأيامى تطاردنى
مددت يدى فخذ بيدى
إليك ومنك يا رباه
ومن طول النوى أواه
هو إذن مزيج من العقل والقلب كما قال عباس محمود العقاد يصدر عنها ذلك الصوت النادر، وأذكر حينما أضيئت الشموع فى «صالون الشموع» لأم كلثوم بمناسبة مرور مائة عام على مولدها، وحضر جمع غفير من الفنانين والكتاب والأدباء والساسة والإعلاميين، وطرحت الأقوال فيما أننا لم نوف أم كلثوم حقها بعد رحيلها، ولم تحرص الدولة ولا أسرتها على أن تجعل من بيتها متحفا شاهدا على عبقريتها وتفردها واعتلائها عرش الغناء العربى، فقالت الإذاعية آمال فهمى: كنا قد اجتمعنا من أجل هذا الغرض، وضم الاجتماع اللواء صبرى أبوطالب، والدكتور عبد العزيز حجازى، والدكتورة نعمات أحمد فؤاد، والدكتور محمد الحفناوى، وقال بعض الموجودين وقتها إن أم كلثوم تعرضت إلى مؤامرة داخلية. وعندما تطرَّق الحديث إلى مقتنياتها وآثارها أوضح الدكتور محمد الحفناوى كيف أن أسرة أم كلثوم قدمت للكاتب مصطفى أمين الهلال الماسى «القمرة» – كما كانت تطلق عليه أم كلثوم؛ لكى يُجرَى عليه مزاد فى إطار مشروع الخير لأم كلثوم، وردَّت عليه آمال فهمى من منطلق حماستها الشديدة لأم كلثوم: وأين بقية مجوهراتها وحليها؟ أين بيتها؟، فرد عليها قائلا: إن الدولة رفضت أن تشتريه منا ثم عرضت 12 ألف جنيه، ثم سألته عن قطعة حلى أخرى ثمينة كانت كالشجرة، وكانت تسميها (الحلق المكنسة)؛ لأنها طويلة ؛ فنظر إليها باستياء قائلا: يا مدام آمال من الواضح أن لديك قائمة كاملة بمصوغاتها، فردت بدون سخرية: أنا أتحدث عن أشياء رأيناها جميعا، وسجلتها الصور ونشرت فى الصحف والمجلات. وعن اتصالها بالسيدة فردوس ابنة شقيقى أم كلثوم قالت آمال فهمى: إن ورثة أم كلثوم ظلوا سبع سنوات منتظرين أن تقوم الدولة بشراء بيتها وإن البيت هدم مع حديقته فى جنح الظلام بعيدا عن الأعين؛ فقد وقع عقد البيع فى الخامسة مساء ولم يطلع الصباح إلا وقد صار أطلالا على الرغم من أن أجهزة الإعلام كان من الممكن أن تبدأ حملة تبرعات قومية لإنقاذه من البيع والهدم.
وقالت سميحة أيوب: إن أم كلثوم ليست ملكا لأهلها، وإن كان أهلها بحاجة إلى مليون جنيه فباعوا البيت، وكان على الدولة أن تعطيهم أكثر منه؛ كى تحتفظ للأجيال بهذا المكان الذى عاشت فيه وتنفست وشهد ميلاد أجمل أغنياتها؛ ليبقى لنا فساتين أم كلثوم وأروابها وأمشاطها ومجوهراتها أمام مرآتها فى بيتها.
وبذا تنتهى ذكرى إنسانة تمثل حقبة مهمة فى تاريخ هذا الوطن، ثم كان محمد عبد الوهاب يقول: لا أريد أن يحدث لى هذا؛ ولذا لم أشيِّد فيلا وإنما استأجرت شقة، وأنا أقول ما الفرق؟، إن هنا ذكرى وهناك ذكريات وآثار لهؤلاء الذين أثروا تاريخ الحضارة فى مصر، فأين الاهتمام بما تركوا، كما تفعل الدول المتحضرة باحتفاظها واحتفالها بآثار عباقرتها؟.
_______
*المصري اليوم
مرتبط