خاص- ثقافات
*أحمد غانم عبد الجليل
يتناول القاص المصري عصام سعد حمودة الغربة من أوجه عدة ضمن مجموعته القصصية “حروف الغربة”، حروف تتدفق وتنساب في مسارات عميقة المضمون، ولو من خلال أبسط المواقف الحياتية، مما يتطلب أكثر من قراءة لكل نص ينطوي على أزمة فكرية أو نفسية أو عاطفية أو مادية تعاني منها الشخصية المحورية، تشترك في إعادة صياغة السؤال عن معنى الاغتراب، أو منطلق الإحساس به، سؤال يواجهنا كثيراً في مواقف شتى، حتى مع ممارسة ذات الطقوس اليومية، وفي ذات الأماكن؛ والأماكن في جل نصوص المجموعة كانت أداة من أدوات السرد التعبيرية، سواء داخل أو خارج مدينة الكاتب (الإسكندرية) عبر الإشارة إليها بمفردات متفرقة هنا وهناك.
“يمتد شعاع البصر للبعيد بعد البحر وشعاع واهن من خيوط ذاكرتي صغيرا أمام البحر في خشوع أبحث بعيدا بعد الشمس الغاربة عن مدن أخرى فلا أجد” ـ من قصة بعد البحر.
بينما تتخذ الغربة بعداً آخر في القصة التي عنونت بها المجموعة، وكان الاختيار موفقاً لما يتضمنه من إيحاءات تمثل عنصر جذب للقارئ. “عندما رحلت من بلدنا عندما حرمت منه. حروف كلمة ممحوة, تلك هي حروف اسمه. تتسمر الحروف الممحوة في المآقي.. تغيم الرؤية.. تتبعثر السطور.. تختلف الجمل والكلمات”.
جملة ذات نغمة شعرية تختزل الكثير من كلمات الانكسار والفقدان، لا للوطن فحسب، بل لكل ما له معنى في حياتنا، وما نفتقده وأيضاً ما نضطر لفقدانه تحت وطأة ظروفٍ مختلفة، منها التهميش الذي يضاعف بدوره الإحساس بالغربة حتى عن أقرب المقربين، وقد اشتغل الكاتب بمهارة على هذا الظلم والتسلط (الاجتماعي) من أكثر من زاوية، من خلال: الموظف المغلوب على أمره، الشاب المعاق، العاشق، الطفل، المواطن البسيط معتقل الإرادة، المهاجر، وشخصيات أخرى رسم ملامحها وعبّر عن أزماتها بأسلوب رشيق ومكثف في واقعية موشحة برمزية متعددة الدلالات.
“تتسلل من عينيه دمعة، يصدها بإبهامه قبل أن تغرقه وتغرق الشارع, يمضي نحو البحر، يفرد يده، تحتضن أصابعه الهواء البارد.” ـ من قصة الهواء البارد.
“يهب من مقعده رافعا بيده قدمه اليسري العاجزة متجها تجاه الباب. تتوقف الكلمات على شفاه العجوز، وظل واقفا أمام المقعد الخاوي.” ـ من قصة البحث عن مكان
وكذلك الأمر مع المغترب داخل وطنه من أجل لقمة العيش في العاصمة الكبيرة، وكأنه عبر من قارة إلى أخرى عن طريق الهحرة غير الشرعية “آآآآه يا مدينة كل شوارعك صارت تعرفني.. تعبس في وجهي وتدير وجهها عني” ـ من قصة تلك الرائحة.
وضمن وجه آخر من أوجه الاغتراب هناك رصد يتوغل إلى عزلة الكتّاب عن عوالمهم المعاشة نحو أفق الخيال الذي يتجلى في الصمت والوحدة التوّاقة للانعتاق التام من كل القيود، كما جاء في قصة سطور “لا قيمة للوقت عنده عندما يكون بهذه الحجرة, يترك سيف الوقت في حجرة نومه, يكتب.. يبحث في، وعن أشياء كثيرة: أسماء، ألقاب، حكاو، تواريخ.. هكذا حياته.”.
وفي قصة لحظات الخوف يتناول السرد غربة الذات الإنسانية عن مجتمعها، بل عن وجودها نفسه، يجسدها الكاتب بتكثيف شديد يأخذ شكل قصة الومضة في معالجتها لما يشهده عالمنا اليوم من تناقض متفاقم في الأفكار والرؤى والتوجهات العقائدية. “تسجن نفسك داخل شرنقة، تطل منها على الآخرين، تراهم ولا يرونك”.
بينما يتم تجسيد اغتراب الذات برؤية أخرى ضمن قصة ارتداد: “طرق كثيرة عبرها وتخطاها، ثم ارتد مرة أخرى يعبرها من جديد، لم يكن يتابعه ويراقبه أحد فهو مثل الملايين غيره”.
يبقى الانسان، بين تفاوت الفعل ورد الفعل، يبحث في دربٍ طويل، متشعب المسالك، عن مستقرٍ لوجوده الحقيقي الذي قد يظل محط سؤال لا يدرك له إجابة محددة وحاسمة، فالطبيعة البشرية مثل موج البحر، لا ترضخ للسكون أبداً، وإن بدا عليها ذلك.
“حروف الغربة” مجموعة قصصية قصيرة ذات قيمة أدبية ثرية التأملات، ترسخ في الذاكرة ومعها اسم الكاتب الذي ننتظر منه المزيد والمزيد من التميز في فن القصة الإبداعي.