مالكولم دو شازال.. مزيج من فلسفة وجنون وتكتّم

*باسم المرعبي

شازال.. السيرة المحجوبة

“اعتاد سكان الجزيرة على رؤيته بملابس رثة وحذاء مثقوب، لا يتردّد في ارتياد الفنادق الفخمة المعروفة في الجزيرة، حتى حسبه الناس من أصحاب الأموال وهو الذي لا يشتري سوى قميص واحد كل خمس سنوات”. هذه الصورة التي تبدو وكأنها مأخوذة من رواية لبطل غريب الأطوار تُواري خلفها صورة الشاعر والمفكّر والرسام الفرنسي “مالكولم دو شازال”، كما يعرفنا عليها الشاعر والمترجم العراقي عدنان محسن في ترجمته الجديدة: مالكولم دو شازال ـ “قصائد” وتليها مختارات من كتاب “الحسّ التشكيلي”. دار أدب وفن 2017. حيث يُقدَّم الشاعر لأول مرة بالعربية عبر كتاب، وبمقدمة توازي المتنَ الأساس أهميةً، لما حفلت به من معلومات وآراء أو أحكام تقصّت قيمة الشاعر ودوره. وعلى الرغم من تعمد شازال مواراة سيرته والتكتم عليها، لأنه أراد البقاء لغزاً، ليس لجزيرة “موريس” حيث ولد وعاش ومات فيها، وإنما لبقية العالم كذلك، حسب قوله، إلا أن مقدمة الكتاب اضطلعت بجمع شظايا هذه السيرة بالاستناد أيضاً إلى نظرة الآخرين له، من كتّاب وشعراء كأندريه بروتون وليوبولد سنغور وفرنسيس بونج وجورج باتاي وأندريه جيد وبيرنار فيوليه وسواهم. لقد بشّر جان بولان، ناشر وكاتب مقدمة “الحس التشكيلي” ـ 1948، بميلاد عبقرية شعرية وظاهرة اسمها “مالكولم دو شازال”. لقد كشفت مثل هذه الآراء، وعموم مادة المقدمة الاحتفائية، عن “بعض” خصائص شخصية الشاعر من جهة، كما بيّنت، من جهة أُخرى، ثراء وفرادة تجربته التي استوت عبر أكثر من ستين كتاباً، أصدر منها في حياته أربعة وخمسين، وثمانية كتب صدرت بعد رحيله عام 1981. لقد توخينا بالصورة التي استهللنا بها هذه القراءة تقديم الشاعر في ملمح من ملامح حريته التي حرص عليها، نابذاً كلّ غُل يحدّ مما طُبع عليه من تمرّد مثلما عبرت عن ذلك كلماته ذاتها التي قالها عن نفسه: “كائن صعب المراس ويصعب العيش معه وقيادته مستحيلة. كائن لا يُساس وغير مستعد للطاعة..”. ومالكولم دو شازال المولود عام 1902 من أبويين فرنسيين كان قد هاجر أسلافه إلى جزيرة موريس عام 1763 ـ بعد خمسين عاماً من ضمّ فرنسا للجزيرة ـ وقد اختار المقام، منذ عام 1925، في هذه الجزيرة، بعد رحلات شملت العديد من الدول من بينها كوبا والولايات المتحدة، حيث، في هذه الأخيرة، أتمّ دراسته في مجال الهندسة الكيميائية. وقد “بدأ الكتابة في الصحف المحلية بِاسم مستعار، وفي عام 1935 شرع بنشر مقالات في الاقتصاد والفلسفة وكتابة النصوص القصيرة التي سيجمعها في كرّاسات على نفقته الخاصة”، حسبما جاء في التقديم. إن النزر اليسير من المعلومات حتى تلك المتعلقة بولادته، قد تمّ تقصّيها من أصدقائه، بسبب موقف الشاعر المسبق بما يتعلق بموضوع سيرته، حتى إنه رفض عرضاً من إحدى دور النشر الفرنسية هي “سيغيرس” للكتابة عنه في السلسلة الشهيرة “شعراء”. وعلى الرغم من شحّ المعلومات المتعلقة بحياة الشاعر، بشكل عام، غير أن القارئ يخرج بصورة شبه متكاملة ولا تخلو من التشويق كما اجتهدت المقدمة في تركيز هذه الصورة وقد نحت، في الوقت نفسه، منحى الدراسة لعالم مالكولم الأدبي، ملقية الضوء على صلة هذا العالَم بالحركات والاتجاهات الأدبية السائدة، وإن كان منظوراً اليه من زاوية هذه الحركات، نفسها، كما هو الحال مع السريالية التي وجدت فيه ابناً باراً لمبادئها لكن سرعان ما نبذته لاكتشافها نزعة الإيمان لديه، وهو ما يعدّ عقوقاً ونقضاً لها. من هنا يجيء نفي سرياليته، كما في تعليل ليوبولد سنغور، اللافت: “هو ليس سرياليا،ً لأنّ في داخله كثيراً من الروحانية التي لا يملكها السرياليون”.

كتابة بخيالٍ مجنون

يوصَف مالكولم دو شازال بالشاعر المفكر والعالِم والفيلسوف وما إلى ذلك مما يحيل إلى العقل. فهو شاعر فيلسوف، ليس للشعر عنده من وظيفة غير تلك التي تعبر عن أفكار، حسب تعريف جورج باتاي. ومن المفارقة، في الوقت ذاته، أن يوصَم إزاء عقلانية صلدة كما تمثلها هذه الانشغالات، بالجنون. وإن كانت الصلة قائمة بين كل هذه الوحدات الآنفة، على أية حال! فكما يُشاع دائماً أنّ ثمة حداً واهياً بين الجنون والعبقرية، حدّ إمكانية أن يحل أحدهما محلّ الآخر. وعند قراءة شذرات هذا الشاعر المفكّر كما تبدت عليه في كتابه “قصائد” ـ 1968 أو في القطع المختارة من “الحس التشكيلي”، نكون حقاً إزاء كل هذه الصفات مجتمعة. فتأملاته بدءاً، والتي عُرفت بالشذرات، لا يمكن عدّها شعراً خالصاً، وإن اكتست لغته وشكله، كما أنها تراوح بين الفذ من التأمل والخيال والابتكار وبين العادي من القول وقد أشار المترجم في مقدمته إلى الملاحظة الأخيرة بوصفها استدراكاً مهماً في منحى قراءة الشذرات. وإذا كانت شذرات كتابه “قصائد” تتميّز، بشكل عام، بقصَرها وتماثلها إجمالاً، شكلاً ومحتوىً، فإن الشذرات المُتاحة من “الحس التشكيلي” في هذه الترجمة، يمتاز أكثرها بالطول وتتخذ أكثر من منحى وأكثر من شكل أدبي، فهي مزيج من القَص والتأمل والحكمة والتقرير وقد حفلت بأشارات فكرية وفلسفية وجمالية وعلمية، لا بالمعنى المتبادَر بالنسبة للأخيرة، بل بمعنى الكشف من منطلق الحدس، وكما قال مالكولم نفسه، “الشاعر وليس أنشتاين هو من يأتي بالحقيقة”. وهو ما يتفق ورؤية ت. س. إليوت التي عبر عنها بقوله، الشاعر يقدّم الحقائق لكن دون براهين. من هنا فإنّ (المصطلح الأنسب لشعر مالكولم دو شازال هو “فوق شعر”، ففيه يختلط العلم والفن والشعر وعلم النفس والميتافيزيقيا…)، على حد قول جان بولان. ومن الخصائص الأُخرى لهذه الكتابة، يمكن ملاحظة أن جميع الشذرات بلا عناوين وأنّها تعتمد المفارقة، كما يمكن للقارئ أن يعقد الصلة بين العالم اللوني لشازال كرسام، بعد الاطلاع على لوحاته بألوانها المبهجة، وبين قسم من كتابته، تبدّى فيها أثر اللون أو استبطنها، بل يمكن القول إنها تصدر عن رؤىً ملوّنة. غير أن الخصيصة الجوهرية للشذرات تكمن في أنها نتاج خيال مجنون إن صحّت التسمية، لغرابة المناطق التي ترودها والشطحات المفاجئة، كما أنها لا تتردّد في الافصاح عن أي شيء يمكن أن يخطر في بال كاتبها، وهي لا تنمّ هنا عن الجرأة، فقط، بل إن الأمر يتعلق بهدم مزدوج يتعلق الأول بالعقل بغية العبور صوب الجنون أو تمثله والثاني يتصل بتخطّي التابو لأجل استباحة أية فكرة وتجسدها صورةً أو كلمة. ومن المفيد هنا استحضار استقراء سنغور لهذه الخصيصة في كتابة شازال، بتصوره النافذ عنها: “إنّ بحثه الشعري يفضي إلى صياغة أفكار حيث كلّ شيء هو صورة ودلالة في الوقت نفسه”. لكن عند الحديث عن المتحقّق “الشعري” في نتاج شازال، نستبعد بطبيعة الحال، كل “التقريرات” العادية التي تنتظم في سلك اليومي الداجن، حتى لو كانت تحمل فكرة “نبيلة”. كقوله في “الحس التشكيلي”: الألم يرفع من شأن الكبار وحدهم. أو قوله الآخر: العظَمة مثل الشمس، ليس من الضروري أن تبرهن على وجودها، الكلّ يراها. إن جملاً كهذه تنتمي إلى إرث الأقوال المأثورة أكثر من انتمائها إلى أي حقل إبداعي أو فكري، فهوية شازال هي في اكتساء أفكاره إهاب الجنون أو الكشف، لكن مع نتاجه المسالِم للمأثور من القول والحِكم، تتم مضاهاته بكتّاب هذا النوع من “الأدب”، مثل “فرانسوا دو لا روشفوكو، وهو كاتب من القرن السابع عشر عُرف بكتابة الأقوال المأثورة والحكم والأمثال”. كما يكشف عن ذلك نقاد فرنسيون.

ان أهمية هذه الترجمة، المنجَزة بشغف تبدو في ترسيخها لاسم استثنائي، لدى القارئ العربي، فمع “قصائد” وما يليها من منتخبات من “الحس التشكيلي” يحرز هذا القارئ انطباعاً مهماً عن عمل وفلسفة شاعر مأخوذ بالمعرفة، لن يكون عابراً في وعيه الجمالي، على أية حال.

نماذج من الشذرات:

الظل

حقيبة

الفضاء.

كان

الطقس

حاراً

جداً

بحيث كان على الأزهار

أن تستعمل ألوانها مهفّة.

عندما

مرّ

المجذاف

خلع الماء ثوبه.

وضع

الضوء

يده

في حقيبة المساء

وأخرج منها نجمة.

اللون الرمادي منفضة الشمس.

في الجدار

تشعر

كلّ الأحجار

بأنّها ميتة حيّة.

 الظل

هو

ثقل

الوقت.

البذرة هي حقيبة يدِ النباتات.

الماء

في

الأصيص

لا يتجاوز ارتفاع كِليتيه.

عندما

تموت

الصخرة

لا

تشعر

بحاجة

إلى

الدفن.

في

الوميض

يدير

الضوء

دكاناً صغيراً.

شعرتِ الزهرة بالريح فهزّت رأسها وانحنى الساق، مثل امرأة

قد توافق على شيءٍ ما برفضها.

العين أجمل صالة للمواعيد.

اللذّة عند الرجل سكنٌ من غرفة واحدة وهي عند المرأة

خليّة نحل.

الضحكة المفتعلة تُنقص من وزن الأسنان.

الوديان هي حمالة صدر الريح.

الطبيعة أجمل كتاب للصور. ولكن للأسف نتوقف عند الغلاف وحسب. وكي يتسنّى لنا تقليب صفحات هذا الألبوم العجيب، علينا أن يكون بوسعنا تقشير النباتات والأزهار والفواكه بالنظر مثلما نقشر البصل باليد أو مثلما نفعل بموسيقى أوركسترا نتذّوقها جزءاً، جزءاً ونستبقيها في الأذن كاملة. وهكذا، لمعرفة قدر الأزهار على نحو تام علينا أن نكون قادرين، وبالتناوب، على تذّوق حزوز الزهرة وخطوطها الزردية وبِركاتها الملوّنة الصغيرة وبذورها وزغبها وترقطها المطاطي ووميضها وظلالها ورسومها وأصيصها وديكورها ومشهدها ومنحدرها وكواليسها وتناسق ألوانها وانسجام أشكالها ومعمارها ولوحتها. ولكن من أجل تقشير زهرة بالنظر مثلما نقشّر البصل باليد، أليس من الواجب على المرء أن يعرف على الأقل وقبل كلّ شيء ابتكار مخططات للنظر؟

  • عنوان الكتاب: مالكولم دو شازال ـ “قصائد” وتليها مختارات من كتاب “الحسّ التشكيلي
  • المؤلف: مالكولم دو شازال
    __________
    *ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *