خاص- ثقافات
*د. مازن أكثم سليمان
لعلَّ التساؤل الجوهري الذي سيظل يتداوله المثقف العربي بوصفه تساؤلاً ملحّاً وراهناً من ناحية أولى، وغير قابل للاستنفاد من ناحية ثانية، لا يتعلّق بمعنى الثقافة ودورها وجدواها فحسب، وذلك في ظلّ واقع عربي أقلّ ما يُقال عنه إنه واقع مأزوم؛ إنّما يتعلّق تعلُّقاً أكثر مُباشَرةً بكيفية تعيُّن المثقف عبر فعل الثقافة، أو بالأحرى بكيفية وجود الثقافة بوصفها مُمارَسة كيانيّة تسمح للمثقف بالحضور أبعد وأعمق من الهامش الذي يضيق عليه يوماً بعد يوم.
لطالما عانى المثقف العربي من المواجهة الضارية مع السلطات السياسية، وربما رأى بعض المُنظِّرين أنَّ هذه المُواجَهة لم تكُن في جوهرها (صراعاً _ مع السلطة) إنّما (صراعاً _ على السلطة)، غير أنَّ هذا الرأي على ما يحمل من بعض الصحّة ينبغي أنْ لا يأخذ طابع الإطلاق متجاهلاً حجم الحصار الذي أحاق بالمثقف العربي في عقود ما سمي بـِ (حقبة ما بعد الاستقلال)، على العكس مما كان يُؤمَلُ يوتوبيّاً من أحلام تتصل ببناء دول عربية عصرية.
شكَّلَتْ حرب الخليج الثانية في عام 1991 لإجلاء القوات العراقية عن الكويت لحظة فارقة في التاريخ العالمي المعاصر، ولا سيما أنها تزامنتْ مع انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين بوصفه يُمثّلُ سقوطاً للمنظومة الاشتراكية، وانتصاراً حاسماً للرأسمالية الغربية مُتمثِّلةً على نحوٍ خاص بالولايات المتحدة الأمريكية التي هيمنتْ مُنفردةً على القرار الدولي في عقد التسعينات، لتدخل الرأسمالية في تلك الحقبة طوراً جديداً وصف بالإمبريالية المعولمة، ولأنَّ هذا الانتصار بدا ساحقاً ونهائياً أطلق مفكِّر مثل فوكوياما مقولته الشهيرة عن نهاية التاريخ.
لقد تجسَّدتْ هذه التحولات اقتصادياً بنقل الدول الصناعية الكبرى كثيراً من مراكز ثقلها الصناعي إلى الدول النامية التي تمتلك المواد الخام واليد العاملة الرخيصة، وبدا هذا الإجراء محاولة لتفادي التضخُّم الهائل في رؤوس أموال تلك الدول، لتزيد وفق هذا المسار الهوة أوّلاً بين الدول الغنية والدول الفقيرة، وثانياً بين أغنياء كل دولة وفقرائها، وهو ما تمثَّل من جانب آخَر بتراجع فادح في وجود الطبقة الوسطى بوصفها تمثّل تقليدياً الحامل المُفترَض للثقافة والتغيير في العالم، ولا سيما بعد أنْ وصلَتْ معظم النظريات الفكرية والسياسية التي سادتْ في أواسط القرن العشرين إلى طريق شبه مسدود ومنفصل عن الواقع.
من جانب آخَر، بدا أنَّ هذا التوضُّع الجيو_سياسي العالمي قد خلَقَ التربة الخصبة لاستيقاظ أصوليات شديدة التطرُّف ليس في العالم العربي وحده إنّما حتى في الغرب، وبدا واضحاً أنَّ أفكار التنوير والتعددية والديمقراطية قد تلقَّتْ ضربة قاسمة في ضوء العودة إلى بِنى ما قبل الدولة، وهو الأمر الذي ترسَّخ بقوة أوّلاً مع غزو أفغانستان والعراق من قبل أمريكا، مروراً بالأزمة الاقتصادية العالمية عام 2008، وانتهاءً بالربيع العربي الذي أدّى انبثاقه إلى انفجار وتشظّي غير مسبوق لجميع الأسئلة الكيانية والهوياتية التي كان مسكوتاً عنها، أو غير مُفكَّر فيها من قبل!
إنَّ كُلّ ما سبق وضَعَ المثقف العربي في حالة عجز وعري وعزلة، وهو الذي لا يملك إلا سلاح الكلمة أو الفن أو الفكر في مواجهة نظام عالمي يتحكَّم حتى بالهواء الذي تتنفّسه البشرية. لكن، ومن جانب آخَر منحتْ ثورة الاتصالات والرقميات والمعلومات ووسائل التواصل الاجتماعي هذا المثقف فرصة بالغة الأهمية للوجود والتأثير ومحاولة الفعل الحقيقي، في الوقت نفسه الذي حاصرته بمحنة جديدة تتعلَّق بسيولة المعرفة الفائضة، وهشاشة الرؤى المتناثرة بلا ضوابط، وفقدان الفرز بين المُعطى الثقافي الأصيل والمُعطى الثقافي الاستهلاكي إلى حد كبير.
قد يتجاوز المثقف العربي تساؤله عن جدوى الثقافة، وقد يعلِّق جدَليّاً البَحث عن صلة المشروع الثقافي بالواقع، ومدى تأثيره على البيئات المُوجَّه إليها، لكنَّه مضطر حُكماً إلى مواجهة سؤال الكيفية التي تسمح لمشروعه الثقافيّ بالتّحقق بذاته بوصفه تحققاً أنويّاً بمعنىً من المعاني، وهو الأمر الذي يتعقَّدُ تماماً في ضوء تشظٍّ مُعاصِر غير مسبوق للذاتيّة، وانفلات فوق واقعي للمعايير، وتغييب غير بريء لفكرة المثقف العضوي.
ما من شكّ أنَّ أي مشروع ثقافي رصين ينبغي أنْ يعيد الاعتبار للأسئلة الكيانية والكونية الكُبرى، وأنْ يتجاوز منطق الثنائيّات الميتافيزيقية البالية؛ فلم تعد الحدود المفهوميّة الفاصلة بين المحلّي والعالَمي، أو بين النَّحنُ والآخَرين، سوى عدّة مَعرفية مُهترئة، ولذلك تستمد الخصوصية الثقافية معناها من مدى قدرة أي مشروع ثقافي على مجاوَزة الهُوِيّات المُتعالية الضيقة عبر التجذُّر الأصيل في انشغالات العصر وأسئلته، وعبر استدراج الثقافة إلى مكامن التَّباعُد والمُجاوَزة والاختلاف المفتوحة بحُرِّيّة على المُستقبَل، وخارِج ثنائيّة (سُلطة المُثقَّف: مركزيّة الذات) و(موت المُثقَّف: مَحو الذات)؛ إذ إنَّ تقييد سيادة الذات والتَّخفُّف من سطوتها، لا يعني بحال من الأحوال إلغاء فعاليَّتِها النِّسبية.
المثقف العربي الجديد لم يعد نبياً أو مُخلِّصاً كما كان ينظر إلى نفسه، كما إنه لم يعد (سوبرماناً) كما كان يرسِّخُه الوسط المحيط به، لكنّه وبوصفه رجُلاً وحيداً وأعزل في عالمٍ جامح وشديد التغيُّر، يُمكنه أنْ يحفر في الأسئلة الكبرى التي لا تستنفد، وأنْ يُنقِّبَ عن مواضِعَ جديدة للفكر والجَمال، لا لكي يملك الحقيقة التي تنصِّبه فاتحاً لا مثيلَ له، إنّما ليرقص بوَحدةٍ وتسامٍ على حوافّ اللعب الحر للعلامات ذات الدَّلالات المتوالدة والمُتسارعة باستمرار، ودونما أنْ ينتظرَ أيَّ صدىً كاذب، أو حتّى جائزة ترضية!
الهُوِيّةُ الثقافيّة الآن هيَ هوية حركيّة يوميّة عيانيّة تحاول الالتحاق بالكلّيّ، وهيَ هوية مُساءَلة دورانيّة لما اعتُقِدَ أنّه أنهى مسارَهُ وأقفلَ أبوابه، إنّما بلغة العصر المُتنافرة مع أيّة وَحدة متعالية هشّة ووهميّة، وبالاتّكاء على التراكمات المعرفيّة الهائلة، وبالإيمان بالانفتاح غير المحدود على هُوِيّة الوجود في العالم، ذلكَ أنَّ هذا الوجود _ربّما_ يُقدِّم للبشر من حيث لا يدرون إمكانيات عريضة لخلخلة مركزيات سلطوية كانت واثقة من تماسكها وصلابتها الساكنة من قبل.
لم يعد المشروع الثقافي مصدراً للحصانة الذاتية أو للامتيازات الفردية، بقدر ما باتَ مصدراً للاتّهام الحثيث بالعجز والقلق والتلاشي، وهنا مكمن ضعفه وقوته في آنٍ معاً. على الأقلّ قد يؤدي تعليق كثير من المُسَبَّقات ومنها خرافة الخلود، إلى توليد شيء من المعرفة، وشيء من الجَمال، وشيء من الاختلاف. وهذا الفَهم لا يبدو سوى نوع من الثورة الجديدة على منطق التاريخ القديم، أو ربّما التحاق لا مناصّ منه بمنطق التاريخ الزائغ الجديد، فها هو ذا هيدغر قال ذات يوم: “إنَّ المسافات الزمنية وتسلُّل العلل تمتُّ إلى التاريخ لا إلى الوجود التاريخيّ الأصيل. فحينما نوجد تاريخاً، لا نكون لا على مسافة بعيدة ولا على مسافة قريبة من الإغريق. إنّنا نكون بالنسبة لهم في التّيه والضّلال”.
____
* شاعر وناقد سوريّ