من بين أماكن استقرت في ذاكرتي مما رأيته في الأندلس في زيارة إليها قبل سنوات، المسجد الجامع بقرطبة، الذي يعد من أشهر وأكبر المساجد، لا في الأندلس وحدها، وإنما في أوروبا عامة. وهو تحفة عمرانية رائعة، بناه أول مرة عبدالرحمن الداخل، لكنه شهد المزيد من التوسع والإضافات على مدار قرنين من الزمن، ولم يكن المسجد مجرد مكان عبادة فحسب، وإنما كان مركزاً فكرياً احتوى على مدرسة ومكتبة ضخمة تضم نحو 400000 مخطوطة مجلدة بالجلد القرطبي المزخرف.
ومن باب «خوف الغزاة من الذكريات» على ما يقول محمود درويش، فإن القشتاليين حوّلوا الجامع إلى «كاتدرائية تناول العذراء» بعد سقوط الحكم العربي في الأندلس، لكن الجامع ظلّ محتفظاً بطراز العمارة الإسلامية الأندلسية الجميل، وبوسع الزائر له، وقد تحوّل إلى مزار سياحي اليوم، أن يلحظ ذلك. ويقال إن الشاعر الباكستاني محمد إقبال كان أول من صلى بالمبنى منذ سقوط الأندلس، أثناء زيارة له إليه.
محيط المسجد من محال وبيوت مازال هو الآخر محتفظاً بهذا الطابع العمراني العريق، وأنت تتجول في الطرقات الضيقة التي تطل عليها، ينتابك الإحساس، لوهلة، أنك تتجول في أحد أحياء دمشق القديمة، ولو أطلقت العنان لمخيلتك لتراءت لك من إحدى شرفات البيوت شاعرة قرطبة ولّادة ابنة الخليفة المستكفي بالله، التي هامت حباً في الشاعر ابن زيدون، وكان من رواد مجلسها الأدبي الذي كان يرتاده وجهاء المدينة من شعراء وأدباء، فوقع في حبها، وفي هذه الشاعرة يضرب المثل بمجاهرتها، شعراً، بحب الرجل الذي اختاره قلبها.
لفت نظري في المحال التي تبيع تذكارات المدينة المجاورة للجامع، أن الكتيب التعريفي بالمدينة الذي هو بمثابة الدليل السياحي لزوارها متوفر بكافة اللغات الرئيسية في العالم كالإنجليزية والفرنسية والألمانية والروسية، ناهيك عن الإسبانية طبعاً، لكن لا تتوفر نسخة عربية من الدليل، الذي يحكي تاريخ مدينة بناها العرب، وأقاموا فيها نحو خمسة قرون.
الأديب البحريني المخضرم تقي البحارنة يذكر في كتابه «أوراق ملونة» أنه لاحظ ذات صباح الوجوم وتعابير الأسى على وجوه العاملين في فندق كان يقيم فيه بمدينة إشبيلية الأندلسية، ولما سألهم عن سبب ما هم عليه، قالوا إن أحد الأثرياء الأمريكان تعاقد مع الشركة المالكة على تفكيك جميع سقوف حجرات الفندق وقاعاته من الخشب المزخرف والمنقوش بالفن الإسلامي والعربي، وبعضه كان مستورداً من بيوت دمشق القديمة، على أن يتم شحنها بعد ترقيم القطع التي فيها إلى أمريكا ليعاد تركيبها من جديد.
في زيارة تالية له للمدينة إياها سأل الكاتب عن هذا الفندق، فلم يجده.