الوجيز في دراسة القصص

 

خاص- ثقافات

*د.محمد عبدالحليم غنيم

     الوجيز فى دراسة القصص ، كتيب صغير الحجم ، ظهر لأول مرة مترجما إلى اللغة العربية عام 1983 ، حيث ترجمه الدكتور عبد الجبار المطلبي ، ونشر ضمن مطبوعات الموسوعة الصغيرة فى بغداد ، ورغم أهميته لم يلق الاهتمام الذي يستحقه ، ولا أظن أن أحدا من نقادنا استعان به سواء فى لغته الأصلية أو فى لغته المترجمة ، رغم كثرة الكتب الأجنبية التي يستعينون بها عند دراسة الأعمال القصصية والكتيب الذي بين أيدينا عنوانه الإنجليزي : A handbook For The Study Of Fiction

     يقول المترجم الدكتور العراقى عبدالحبار المطلبى عن الدافع إلى ترجمة الكتاب “فقد وجدته يلم بفن القصص في عرض موجز ، ويقدم خلاصة مفيدة لطبيعة القصص عامة ، ولعناصره ، معتمدا على إيراد مثلين كاملين من قصص الغرب وتحليلهما . وآثرت أيضا استعمال كلمة ” القصص ” لأشير أنه يبحث  حقا فى طبيع القصص عامة وليس فى ضرب معين من ضروب القصص وهو ما يوحى به العنوان الانجليزى (1) . ولهذا الدافع ذاته نقوم بعرض هذا الكتيب إضافة إلى ما يقدمه من لمحات ذكية وتفسيرواضح ومقنع لبعض المصطلحات القصصية مثل الفحوى والمغزى والنغمة والجو وطرق التشخيص ، والحبكة واللغة و وجهة النظر وغيرها  .

     قسم المؤلفان الكتيب إلى قسمين ، في القسم الأول تناولا طبيعة القصص عامة وفي الثاني تناولا عناصره من خلال عرض وتحليل قصة “الزورق المكشوف” لـ ستيفن كرين بينما عرضا في القسم الأول قصة “دن نبيذ الامونتلادو” لـ إدجار آلان بو

1 ـ طبيعة القص : ( القص درامي ـ محدد ومتميز ـ تصويري عموما ـ يعلم ويمتع ـ مرتبط بالحياة ـ إبداعي وتخيلي )

     يبدأ المؤلفان بالحديث عن طبيعة القصص الذي ليس ميدانه في حقيقة الأمر إلا التجربة البشرية كلها ، وقبل أن يفصلا هذه الطبيعة أو الماهية ، يوردان قصة “دن نبيذ الامونتلادو” للكاتب الأمريكي إدجار آلان بو ، والتي تدور حول رجلين رسم أحدهما خطة للانتقام من الآخر بسبب مضار أوقعها فيه من قبل ، وقد نفذ المنتقم خطته بمهارة ، وبعد تفسير قصير للقصة ، يغامران بتعريف للقص فيقولان : ” فالقصص سرد نثري خيالي ، ولكنه في العادة مقبول {عقليا} وصادق تماما ، يجسد تغيرات في علائق بشرية ، ويستمد المؤلف مادته من تجربته في الحياة وملاحظته لها ، غير أنه ينتخب مادته ويصوغها وفاق مقاصده التي تتضمن التسلية وكشف التجربة البشرية ” (2) .  ومع أن هذا التعريف شامل إلا أنه مقتضب ومن المفيد إذن الكشف عن مضموناته بالتفصيل :

أ ـ القص الدرامي :

     من خلال استعراض قصة ” دن نبيذ الأمونتلادو” أو أية قصة أخرى ، يمكن القول أن القصة تقول شيئا ، أي ذات فحوى أو مغزى ، إلا أن ما تقوله القصة لا يأتي بشكل مباشر مثل الكتابة غير الأدبية ” بل تجسده الأعمال التي تجرى فيها ممسرحة ” في حوار أو ممثلة فى صور لأشياء ذات معنى ، فأول نتيجة عامة نستخلصها حينئذ أن القص الدرامي ، أي أنه يجعل المعاني تجري في أفعال تمثلها أو تصورها ” (3) .

ب ـ القصص محدد ومميز :

     القول بأن القصص درامي يستدعي أمرا آخر هو أن القصص يجسد معانيه في أشياء وموضوعات وأفعال وشخوص محددة ومتميزة وهو ما نسميه بالرموز الدرامية ، ففي “دن نبيذ الأمونتلادو” يتخيل “بو” رجلين معينين يعانيان من تجربة معينة فى وضع محدد ، وهو يذكر أشياء مادية كثيرة كقناني النبيذ والمالح والأقباء والسراديب والصخور والجص والعظام ، وكذلك يكشف لنا أفعالا منفردة من أفعال العاطفة سببها وضع فريد لجملة من الظروف ، وهذا التحديد والتميز في القصص يؤدي بنا إلى القول أن ” القصص كالفن عامة ، ولكن بخلاف الأنواع الخرى لنتاج الذهن البشرى ينتج نسخة مؤثرة شبيهة بتجربة الحياة ” (4) ، كما أنه  ” يتسع لتجسيد تعقيد الحياة كلها تعقيدا أكثر وضوحا من الكتابة التفسيرية ، وذلك لن الطريقة الدرامية تقوم بالابلاغ بطرق مختلفة فى آن واحد “(5) .

ج ـ القصص ، عموما تصويري :

     “والقصص وإن كان متميزا ومحددا فهو أيضا في عمومه تصويري (تمثيلي) فما يجسده من تجارب وعواطف وأفكار في الحياة البشرية يصح أيضا على جماعة اكبر من جماعة الشخوص الذين يشاركون فيه ” (6) ، وسواء أكان القصص واقعيا أو رمزيا فإننا “نحسب أن السمة الأدبية للشخصية تنطوي مع ذلك فى كونها تمثل أكثر من فرد واحد أو أن سلوكه يصور حقيقة يمكن تطبيقها تطبيقا واسعا أو شاملا ومن أجل هذا يرى نقاد أنهم لا يعدمون المسوغ في توكيدهم أن الأدب كله إنما هو مجاز. ففى هذا التمثيل أو التصوير لا فى التخييل والتلفيق تنطوى السمة الأدبية المتميزة للشخصية أو الموقف او الأداء القصصى “(7) .

د ـ القصص يعلم ويتمع :

     “إن تجسيد الأسس العامة المتميزة لقصص فى أمثلة محدودة هو مصدر إحدى سماته المهمة ، وإن لم تكن الفريدة وهي أن ذلك التجسيد يوسع من تجربتنا ويزيد فى تعاطفنا ، وهو يعيننا على فهم الحياة وجعلنا أكثر إنسانية “(8) . فمن خلال قراءة القصص نستطيع أن نجرب حيوات كثيرة في سرعة ووضوح بصيرة ، ومن المحال تحقيق ذلك لو اقتصرنا على التجربة المباشرة للحواس فى استجابتها لعالم الواقع ولا يقف دور المؤلف عند التعليم فقط ، بل هو مسلى أيضا ، فيكاد يجمع النقاد من قديم الزمان على أن الأدب يمتع ويعلم .

هـ ـ القصص مرتبط بالحياة :

      يرى المؤلفان أن القصص مرتبط بالحياة على نحو معين وليس صورة أو نسخة من الحياة ، لأن ” الأدب مهما حاول أن يتيح الإحساس بالحياة العملية المحس بها فإنه يبقى شيئا مصطنعا متعملا : فالقصص مرتب مصطنع والأدب كله نتاج عقل مخطط ، بارع مبتدع ، عقل ينشئ إلى حد بعيد جدا ، قواعده الخاصة به ، فالقصص فى معنى من المعاني مستقل عن الحياة ” (9)  إذن فيما يتمثل ارتباط القصص بالحياة ؟ يجيب المؤلفان فيقولان : “فيمكنا أن نفهم روائع القصص إذا أدركنا أنه يعني أول ما يعني بحال الإنسان ، وأن مهمة القصص العظيمة هي أن يمثل الحقيقة في الموقف البشري”(10) وعليه فإن القصص ملتزم وإنه معتمد على علاقته بالحياة وأنه يكشف الحقيقة فى نهاية الأمر ويبلغها باية وسيلة مهما كانت ملتوية .

و ـ القصص إبداعي وتخيلي :

     ماذا نعني بقولنا القصص إبداعي وتخيلي ؟ نحن نعني بادئ ذي بدء أن القصص ليس بيانا لشيء حدث أو وصفا لشيء يوجد حقا ، فقد يشتمل القصص على هذين الأمرين ، ولكنه أيضا الشيء المبتدع المؤلف ”  فالكتاب يبتدعون في هذا المعنى لأسباب عدة :  لتبسيط التجربة كي يدرك الذهن عنصرها المميز الذي تجسده ، ولاختراع حوادث تمثل هذا العنصر المميز بدقة أكثر مما تمثله أية حادثة وقعت حقا ، وربما لتجنب دعوى القذف أو التشهير ، فالمؤلف يبتدع سواء بسبب هذه الدوافع أم بسبب غيرها ، إنه يبتكر عوالم جديدة وطرز وجود جديدة ” (11) .

     ويرى المؤلفان ” أن أحد المعايير الذاتية لجودة عمل من أعمال القصص قوته على حمل القارئ على أن يعيش فى عالمه مدة من الوقت ، وأن يعيش بعد ذلك مختلفا عما كان عليه من قبل فى نحو من الأنحاء ” (12).

     وإذا كانت عملية التأليف بهذا الشكل يديرها الحساب الواعي فإن هناك نظرية أخرى تقول : ” أن جزءا من عملية الإبداع – وربما هو جزء رئيس-  من عملية الإبداع يتم بغير وعي ، فالذهن المختزن قد يشتمل على كثير من الانطباعات أو الأفكار لا يتذكرها المؤلف تذكرا واعيا ولا يرغب فى الاعتراف بها ، وقد تجد مثل هذه الأمور طريقها مع ذلك إلى عمل المؤلف من غير أن تؤلف أي جزء من قصد المؤلف الواعي ، وقد تصوغ نتاجه المنجز صياغة ذات مغزى ، وفى هذا المعنى أيضا يكون القصص تخيليا(13)  .

 ـ دراسة القصص :

     تحت هذا العنوان يختتم المؤلفان هذا القسم من الكتيب ، والمخصص لبحث طبيعة القصص ، ويستعينان بمقولة بن جونسون : ” ما يكتب بكد يستحق أن يقرا بكد ” ومن ثم علينا أن نلتفت إلى كل تفصيلة فى القصة وليس معنى ذلك أن يقتصر عملنا على القصة نفسها ، فقد نستعين بسيرة المؤلف أو التاريخ الأدبي أو أي معرفة أخرى خارج القصص ” إن غرضنا الأول أن نفهم عمل القصص ، فنجد بسبب هذا الفهم المتعة فيه ، ولتحقيق هذه الغاية يجب أن نوجه التفاتنا إلى العمل نفسه ، ولكن يجب أيضا أن نفيد من أية معرفة عن حياة المؤلف وأيامه توضح العمل وتكشف عن جوانبه ” (14) .

     ودراسة القصص لا تحسن فهمنا له فحسب ، ولكنها أيضا تزيد في متعتنا به ، ولذلك يرفض المؤلفان رأيا كسولا وقديما ، يرى أن دراسة القصص ـ تحليل النص واكتساب معلومات عنه ـ مما تحطم بطريقة ما سرورنا فى قراءته .على اية حال لا نستطيع أن نجد متعة كاملة فيما لا نفهم ، وفهم الأدب هو فهم الحياة .

2 ـ عناصر القصص :

     وننتقل مع المؤلفين إلى القسم الثاني من الكتيب الذي وضعا له عنوانا رئيسيا وهو “عناصر القصص” إذ يريان أن القصص على اختلاف أنواعه وتباينها يشترك فى عناصر عدة يتضمنها التعريف السابق الذي عرضنا له فى القسم الأول ، وقد قام المؤلفان بعرض قصة “الزورق المكشوف” للكاتب المعروف ستيفن كريف ، والتى أخذت مساحة كبيرة من حجم الكتيب ، بغية المساعدة فى الكشف عن عناصر القصص ، أما هذه العناصر فهي ( موضوع القصص ـ الشخصية ـ وجهة النظر ـ الفعل القصصي والحبكة ـ الموضع “مسرح الأحداث” ـ الجو والنغمة ـ اللغة ـ المجاز والرمز ـ الفحوى .

أ ـ موضوع القصص :

     إن سُئلنا على ماذا تدور قصة كذا أو كذا ؟ فجوابان على الأقل يمكن الإدلاء بهما ، فالقصة تدور دائما حول موضوع معين ، فقصة ” الزورق المكشوف ” مثلا تدور على أربعة رجال لسفينة غارقة ، في زورق نجاة يمخر بهم عباب البحر ، فهؤلاء الرجال ومغامراتهم موضوع القصة ، هذا جواب ، أما الجواب الثاني فيمكن القول أن موضوع القصة (من خلال تعليق المؤلف) يظهر فى أن الإنسان واقع فى كون لا يعبأ به ، وهذا ما يسمى أيضا فحوى القصة ، ولذلك يرى المؤلفان أنه لا يجوز الخلط بين موضوع القصة وفحواها (مغزاها) على كل حال يمكن القول : إن تحديد موضوع القصة يسلمنا إلى فحواها .

ب ـ الشخصية :

     والشخوص أكثر عناصر القصة أهمية ، وقد نعرفها على أنها تمثيل أو تصوير لأشخاص من بنى الإنسان ولعل أهم ما فى هذه الفقرة هو الحديث عن طرق التشخيص ، فهناك طريقتان :

تفسيرية : فالطريقة التفسيرية للتشخيص تخبرنا عن الشخص ، فهو يوصف أو يجري الحديث عنه ، إما من قبل المؤلف أو من قبل شخصية أخرى .

2 ـ درامية : فالتشخيص الدرامي يرينا الشخص في أثناء تحركه ، فمن سلوكه وكلامه وأفكاره المسجلة نصل إلى استنتاجات فيما يتصل بشخصيته وأهوائه وعلائقه بالشخوص الأخرى .

     وقد يعتمد كاتب القصة إحدى هاتين الطريقتين وقد يجمع بينهما عند تصوير شخصياته ولكن يفضل غالبا استخدام الطريقة الدرامية لأنها تعد موضوعية وأكثر إقناعا من الطريقة التفسيرية .

ـ الشخصية المسطحة والشخصية المعقدة :

     الشخصية المسطحة هي تلك التي نكاد نعرف عنها ما يخص أحداث القصة لا غير مثل شخصيات كرين في قصة “الزورق المكشوف” أما الشخصية المعقدة فهي على العكس تماما ، ممتلئة كاملة الأبعاد نراها من أكثر من جهة ، نعرف ماضيها وحاضرها ونستطيع أن نتنبأ بمستقبلها “وليس طول القصة لازما لتطور شخصية كاملة الأبعاد ، فقد تقصر قصة لتبرز شخصية مفردة إبرازا كاملا ، ومن المتصور إمكان أن تكون شخصية ممتلئة كاملة الأبعاد فردية تماما إلى حد أنها لا تمثل غيرها ، فتكون لهذا السبب ذات فادة بوصفها موضوعا لمقالة ، لكن قلما أمكن أن تكون موضوعا لقصة لها شمول فى التطبيق ” (14).

ـ الشخصية الجامدة والشخصية النامية :

     وقد نميز كذلك ، بين الشخوص الجامدة والشخوص النامية ، إن الشخصية الجامدة تبقى فى جوهرها ، غير متغيرة خلال القصة ، أما الشخصية النامية فهى التي تتغير أو تنمو إلى مستوى من الإدراك الجديد بالحياة ، وإلى جانب ما سبق يتطرق المؤلفان إلى تقسيم الشخصية من حيث الوظيفة إلى شخصية رئيسية وهي البطل الذي يحمل مُثلنا وقيمنا ونتعاطف معه أو نعجب به ، وشخصية ثانوية وهي ذات وظيفة محددة فى الفعل القصصي وقد لا توجد أحيانا .

ج ـ وجهة النظر :

     وجهة النظر من المفاهيم الغامضة أو شديدة اللبس فى نظريات السرد المعاصر ، ولعل المؤلفين هنا يوضحان لنا المقصود بوجهة النظر والفرق بينها وبين طريقة السرد ، فوجهة النظر هي زاوية النظر أو الموضع الذي يراقب منه الراوي الأحداث .

1 ـ تستخدم طريقة السرد التي يظهر فيها راوي القصة مطلعا على كل شيء ، وجهة نظر محيطة بكل شيء (عليمة بكل شيء) وليس القارئ مدركا لشخصية الراوي ولا تقلقه قدرة الراوي على رواية الأفكار الخاصة لأشخاص مختلفين . ويرى المؤلفان أن وجهة النظر المحيطة بكل شيء نوعان : ذاتية وموضوعية ، فى الأولى الراوي يعلق على الفعل القصصي بإخبارنا بخطره وبتقويم سلوك الشخوص ، وفى الثانية يمتنع الراوي العليم عن التعليق على الفعل القصصي ” (15)  .

2 ـ وقد يهجر المؤلف ـ إن كان لديه أنواع معينة من مادته القصصية ومقاصد معينة ـ راويه العليم ويتبنى نوعا من أنواع وجهة النظر المحدودة مستخدما ضمير الغائب ومع ذلك يقصر نظرته على تلك التي لشخصية مفردة ، فيروي أفكار تلك الشخصية لا أفكار الشخوص الأخرى أي أن الراوي لا يخبرنا إلا بوجهة النظر التى تفكر فيها وتعرفها ” (16) .

3 ـ وتستعمل مجموعتان أخريان ذواتا وجهة نظر محدودة ، رواة يروون قصصهم بضمير المتكلم ، فتلتقي القصة في هذه الأشكال وكأن المتكلم أحد الشخوص فى القصة ، فصيغة المتكلم التي تستعمل الضمير (أنا) هي ما يميز وجهات النظر هذه وقد يكون الراوي بصيغة المتكلم ، الشخصية الأولى تسرد قصتها ، وفى أحيان أخرى نجد الراوي شخصية ثانوية تشارك في الفعل القصصي أو مجرد مشاهد يسرد قصة الشخصية الأولى .

     ويرى المؤلفان إن لكل وجهة نظر أيا كان نوعها مميزاتها الخاصة ، فوجهة النظر المحيطة بكل شيء ” تتيح للراوي حرية واسعة فى سرد قصته ، فيستطيع أن يظهر أي شيء مفيد من الأمور من غير أن يضطر إلى تفسير كيفية الحصول عليه ويستطيع أن يتحرك كما يشاء في ميدان العمل القصصي وحوله ، ليعطي القارئ صورة حية ومفصلة ، ومطورة تطويرا تاما وذات أبعاد ثلاثة ، زد على ذلك أنه إذا اختار أن يكون ذاتيا فإنه يستطيع أن يبين وجهة نظره تماما ، فلماذا إذن يجب أن يرغب المؤلف فى ان ينكر على الراوى أى شيء من تلك الحرية والقوة  “(17) .

     أما وجهة النظر المحدودة فلها مميزاتها أيضا ، ويمكن القول بعامة إن أي تحديد طوعي مزعوم في وجهة النظر تزيد فى صورة الواقع وفى إحساسنا بالمشاركة فى الفعل أو الأداء القصصي ، ولوجهة النظر المحدودة فائدة أخرى فوق مشابهتها الحياة ، هي أن المؤلف قد يمتنع ـ محقا ـ عن الإدلاء بمعلومات لم يقف عليها قارئه إلى أن تصبح لازمة لتقدم الفعل القصصي ، وقد نجد مثلا واضحا على هذه الفائدة ” القصة البوليسية ” الكشف الكامل فيها من قبل راو عليم قد يحطم الغموض . أو الإمساك عن الإدلاء بالمعلومات قد يكون ضربا من الخداع الذى لا مراء فيه .

د ـ الفعل القصصي والحبكة :

     القصة فى جوهرها رواية لسياق من الحوادث والمصطلح قصة فى معناه الواسع يشتمل كل العناصر التي نعالجها هنا ، أى الشخوص و الأحداث والأماكن والحاوى و وجهات النظرواللغة التى يفصح بها عن هذه الأمور – ولكنه فى معنى أدق يصف “الفعل القصصي” أو خط القصة أو الحبكة ، ” إن لب كل فعل قصصي أو حبكة هو الصراع الذي يكون نضالا بين شخوص متخاصمة أو مجموعات شخوص ، وقد يكون خصاما بين الشخصية الرئيسية وقوة مضادة كالقدر أو البيئة أو مؤسسة من المؤسسات ، وقد يكون الصراع داخل الشخصية مع جانب من جوانب النفس أو مع عماه الخلقي ”  الكتاب ، (18).

     ويقصد المؤلفان بالفعل القصصي سياق الأحداث أو الوقائع المتطورة والجسدية التي تعانيها الشخوص فهو لذلك يعني بالرموز الدرامية وموضوع القصة ، أما مصطلح الحبكة فهو ما يوازي ذلك من سياق التغيرات فى العلائق البشرية التي سببتها أحداث الفعل القصصي ويتعرض المؤلفان بعد ذلك لبناء القصة التقليدية الذي يبدأ بمقدمة ، حيث توجد فيها حالة من التوازن بين الأطراف المتصارعة ثم تكسر ذلك حادثة مثيرة ويشتد الصراع من خلال طور من أطوار الفعل القصصي المتصاعد إلى أن تأتي بما يسمى بالذروة حادثة حازمة تعرف بالأزمة ، وتعود خاتمة النضال لصالح الشخصية الرئيسية أو عليه ، وتقود مرحلة قصيرة من خاتمة “الفعل القصصي” التي تتضاءل فيها شدة الصراع إلى الحل أو النهاية …. وفي الخاتمة يعاد التوازن ، ولكن تغييرا دائما فى علائق القوى المتصارعة يكون قد حدث ”  .

     ولعل أهم ما يؤكده المؤلفان هو الربط بين بناء الحبكة ومضمون القصة ومغزاها ، فذروة الحبكة تشتمل على تغير فى العلائق الخلقية مرتبطة بالحادثة الخارجية التي تنتج الذروة فى الفعل القصصي ويتضمن هذا التغير الخلقي فى الغالب تبديلا ، وفى العادة توضيحا فى فهم الشخصية الرئيسية لموقفها ، وختام القصة يمثل الغاية التي كان الجهد السابق كله يتجه نحوه وهو فوق ذلك يلم خيوط القصة المتباينة بطريقة تجعل مغزى القصة كلها كاملا ومقنعا .

     ويندر أن يروي مؤلف فعله القصصي فى طريقة مرتبة ترتيبا زمنيا كاملا ، لذلك يستخدم تقنيات الإنباء أو الرجوع اللمحي (الفلاش باك) ويستعمل الأخير ليثبت تفسيرا أو بيانا فى مراحل القصة الأولى ، أما الإنباء فلعل أهم وظائفه إثارة حب للاستطلاع وشحذ الإحساس بالتوقع .

هـ ـ الموضع (مسرح الأحداث) :

     يحدث الفعل القصصي فى مكان أو موضع ، وقد يعرف الموضع (المكان) تعريفا غامضا أو يشار إليه فى وصف عارض تماما ، وفى القصص الواقعي ، يلعب المكان دورا كبيرا فى القصة ، فهو قوة فعالة مؤثرة فى حياة الشخوص ، إلى جانب أنه يمنح القارئ الإحساس بصدق الواقع ، وباختصار شديد يهيئ الجو المناسب أو يعكس العلائق فى الفعل القصصي أو الحبكة عكسا رمزيا ، وثمة استعمال آخر للموضع (المكان) وهو استخدامه بوصفه عالما مصغرا للعالم الكبير ، مثل حارة نجيب محفوظ فى قصصه تأتي بمثابة الرمز للعالم الرحب ، والزورق فى قصة ستيفن كرين عالم مصغر للكون .

و ـ الجو والنغمة :

     وجو القصة هو العاطفة السائدة التي تتخللها ، ومن المسلم به أن لكل قصة نوعا من الجو ، ولكنه فى كثير من القصص ليس شديد الظهور ، وقد يكون فى قصص أخرى أكثر ملامحها ظهورا ، ويقوى الجو فى العادة جوانب القصة الأخرى لتنتج تأثيرا موحدا، على الأقل فى مشهد معين .

     أما النغمة فتختلف عن الجو وإن ارتبطت به ، ويمكن تعريفها بأنها موقف المؤلف من موضوعه وإلى حد ما من قرائه ، وأيا كان موقع المؤلف أو الراوي من الأحداث فإنه يتخذ موقفا ما ساخرا أو متعاطفا أو معجبا .. إلخ .

ونتعرف على الجو أو النغمة فى القصة من خلال تعليقات المؤلف ، وبعض الألفاظ الواردة في السياق ، وباختصار تسهم عناصر القصة الأخرى فى إنتاج الجو والنغمة .

ز ـ اللغة :

    اللغة هي الوسيلة الوحيدة التي يعبر بها الأدب عن نفسه ، فكل وجه من وجوه القصص مما جرى بحثه قبل يعتمد على ألفاظ المؤلف وطريقته فى نظمها في جمل وفقرات وبينما لا نكون فى العادة ملتفتين إلى ما تتضمنه اللغة فى القصص كما فى الشعر ، لكننا لا نستطيع أن نتجاهل ما تؤديه اللغة للعمل الفني عامة . فانتخاب المؤلف للألفاظ ( سواء كان جاريا على العرف أم غير حار وحرفيا أم مجازيا )، وجهورية صيغة الجملة أو انخفاضها ، وما يومئ به أسلوبه ، هذه كلها عناصر اللغة التي تعين على صوغ أهمية القصة .

     كذلك تعد اللغة أداة التصوير فى القصة ، فالصورة المتخيلة هى نتاج الاستجابات الذهنية من خلال اللغ كتلك الاستجابات التى تخلقها إثارة أعضاء الحواس ، فاكثر الصور المتخيلة صور بصرية تشير إلى صور ذهنية بتسمية أشياء مرئية او وصفها أو الإشارة إليها ، وكثير من الصور سمعية واقل من ذلك ما تستبقلها الحواس الأخرى وتكمن أهمية الصور فى أنها ـ إلى جانب ما تعطيه للكتابة من حيوية ـ تتضمن أحكاما ومقارنات قد تكون مفتاحا لنغمة أو جو القصة وقد تقيم علائق بين الشخوص فى القصة وأشياء أو أشخاص خارج القصة ، إنها باختصار شديد وظيفة مؤثرة وحيوية فى إنتاج دلالة العمل القصصي وفهم مغزاه .

ح ـ المجاز والرمزية :

     ينقسم القصص فى رأي المؤلفين إلى حرفيً (واقعي) ورمزي “والقصص الحرفية تعنى فى المقام الأول ، بتقديم ظاهر مقنع له صورة الحياة التي يعرفها أكثر الناس ، إنها تعالج مجرى للأحداث مألوفا ومحتملا ” (19)  .

     أما القصة الرمزية فقد تشتمل كذلك على درجة عالية من الإمكان المقبول أو قد تعالج الحوادث غير المألوفة أو غير محتملة الوقوع ، أو حتى المستحيلة وفى كل الأحوال يكتسب سردها الظاهر أهمية تتعدى فحواها الحرفي بتمثيلها ـ تصويرها ـ أراء مجردة أو الرمز إليها ” (20) .  والتمييز بين الطرز الواقعية والطرز الرمزية له ما يسوغه وله أهمية ، ولكن كثيرا من القصص تمزج بينها .

     ويميز المؤلفان بين طرازين من القصص الرمزي ، الأول يسمى طراز الاستعارة أو المجاز ، والثاني طراز الرمزية الحق ، إلا أن بعض القصص تمزج بين الطرازين معا ، مثل قصة “موبى ديك” للكاتب الأمريكي “ملفيل” ولعله من المفيد أن نعرف الفرق بين طراز الاستعارة (المجاز) وطراز الرمزية الحق .

     يقول المؤلفان فى النوع الأول “ومهما يكن من شيء فإن الاهتمام فى المجاز بالفكرة له المقام الأول ، أما الشخوص والمواضع (الأماكن) والفعل القصصي (الأحداث) فليست إلا أوعية شفافة لإبلاغ معاني القصة ، فالشخوص تحسيدات – تجريدات تنكرت قليلا فى زى الأشخاص  ” (21) . أما طراز الرمزية الحق “فليس نسيجا متلاحما لرموز مترابطة ( إذ المجاز هو نسيج علاقات مجازية مترابطة ) ولكن معانيه تتولد من خلال التمسرح الحرفي ثم تتركز فتصبح واضحة من خلال رمز أو أكثر ، وتجسد آثارا قصصية  ” (22) .

ط ـ الفحوى :

     نريد أن نعرف أخيرا ما ترتفع إليه القصة وما يتعين عليها أن تقول فى أمر الحياة ؟ إن ما يبلغنا من الأدب من الرؤية العامة للحياة أو أكثر الأمور جلاء فى التجربة البشرية يدعى بفحواه ، فقد تكون الفحوى فى معنى واسع وجهة نظر معينة فى الحياة تتخلل القصة . ويميز المؤلفان بين الفحوى والمغزى فالأخير نوع خاص من الفحوى “وهو موعظة تحث على السلوك الحسن ، ومن المحتمل أن يتقمص صيغة حكمة أو مثل يخبرنا كيف نسلك في الحياة  ” ( 23) و ” يجب أن ننظر في الوسيلة التي نتوسل بها للتعبير عن الفحوى ، فقد يتكلم المؤلف بصوته ليخبرنا بأهمية القصة ، وقد يجمل معنى الأحداث فى فقرة مفيدة عند بدء الفعل القصصي أو فى نهايته ، وقد يصطنع أحيانا شخصية حكيمة أو لسنة للتعبير عن آرائه ، تخاطبنا من خلال عرض الراوي أو من خلال الحوار  فى إطار التعبير الدرامى الموضوعى ” (24) .

     وأخيرا ينصح المؤلفان الكتاب  عند صياغة الفحوى بوجوب تجنب ” الميل إلى تبسيط القصة وجعل غرضها موافقا لأمر تقليدي من أمور الحكمة ، وليست القصص الجيدة كلها ذوات فلسفة عميقة ، ولكنها إما أن تزيد فى معرفتنا بالحياة أو أنها تمنحنا فكرة طريفة أو مهيأة بمهارة ودهاء أو معبرا عنها تعبيرا دراميا حيا ” (25).

     وتتبدى أهمية عرض الفحوى فى أنه يعدنا للرجوع إلى القصة برؤية واضحة فنستطيع أن نقدر عناصرها جميعا ، وهي عاملة معنا فى مجموع كلي فريد .

     ولعلنا بعد هذا العرض التفصيلي والذي نرجو ان يكون وافيا ، نكون قد أسهمنا فى تعريف القراء بفكرة واضحة وموجزة عن فن القصص .

                                                           د. محمد عبد الحليم غنيم

        ———

 الهوامش :

  • الوجيز فى دراسة القصص ، لين اولنيتيرند و ليزلى لويس ، ترجمة : د.عبدالجبار المطلبى ، منشورات دارة الشؤون الثقافية والنشر ، بغداد ، 193 ، ص 192،193 .

  • المصدر نفسه ، ص 34 .

  • المصدر نفسه ، ص 36 .

  • المصدر نفسه ، ص 37 .

  • المصدر نفسه ، ص 38 .

  • المصدر نفسه ، ص 39 .

  • المصدر نفسه ، ص 41 .

  • المصدر نفسه ، ص 42 .

  • المصدر نفسه ، ص 50.

  • المصدر نفسه ، 51.

  • المصدر نفسه ، 54.

  • المصدر نفسه ، 56 .

  • المصدر نفسه ، 58.

  • المصدر نفسه ، 136.

  • المصدر نفسه ، 144.

  • المصدر نفسه ، 146.

  • المصدر نفسه ، 148

  • المصدر نفسه ، ص156

  • المصدر نفسه ،ص 177

  • المصدر نفسه ، ص 178

  • المصدر نفسه ، ص179

  • المصدر نفسه ، ص184

  • المصدر نفسه ، 185

  • المصدر نفسه ، 186

  • المصدر نفسه ، 188

 

شاهد أيضاً

فرويد وصوفيا في جلسة خاصة

(ثقافات) فرويد وصوفيا في جلسة خاصة د. صحر أنور جلس سيجموند فرويد أمامها ينظر إلى …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *