الخطاب.. بالمنطق الثقافي المكتئب

*روجيه عوطة

ما عاد ممكناً للمرء اليوم أن يتحدث أمام أحد بلا أن يجد نفسه وقد تعرض للتصنيف، الذي يبغي توقيفه، وتحويله الى متهم، وذلك، على أساس عدد من الخطابات، التي صار استهلاكها سهلاً، واجترارها يسيراً. أما إطلاقها وإسقاطها، فيستلزم شحنها بكمٍّ من العصاب، الذي يجعل التلفظ بها عبارة عن رشق لها بلا تروٍّ أو تبصر. فما أن تنطق بشيء ما، حتى يجري التعامل مع كلامك باعتباره منشوراً في “فايسبوك”، فيعمد المتحدث معك الى التعليق عليه بطريقةٍ، غالباً ما يحسبها المنطق الثقافي المكتئب “تفكيكاً”، الا أنها ليست سوى نوع من القضم، تقطيع وتكسير، قبل الامساك بالفتات، ومدها بمعانيها، أي بأوصافها على وجه الدقة، عبر إعادتها الى المشارح الخطابية.

على هذا النحو، قد تنطق بشيء ما، فيعلق المتحدث معك بـ”ما هذه النظرة اليوتوبية”، وبعد قليل، بـ”هذه نيوليبرالية”، ثم، “ما هذه الثورية الرومانسية”، ولاحقاً، “هذه ذكورية”، ومباشرةً، تنقلب الى “نسوي كاره للرجال”، وسرعان ما تصبح “محافظاً” و”برجوازياً”، وفي الكثير من الأحيان، أنت “ريفي” أو “تقدمي” أو “أندرغراوندي”، وبينهما، “محب للرأسمالية” و”كاره للحضارة”. قد تكون ممثلاً لتصوُّر ونقيضه في الوقت نفسه، لتصوّر والبعيد منه، وفي حال أخذت بكل خانة من الخانات، التي وضعك فيها مُحدّثك، تضيع، تحتار. فالإفراط في تصنيفك، ينقل لك الدوار، وقد يصيبك بالعماء أيضاً، وبذلك، يبلغ هدفه الأول: تعطيل وسطك وتدابيره.

إذا كانت “الخطاب” يساعدنا في الإجابة على سؤال “ما خطبنا، ما شأننا؟”، فهو، وبعد تحوله الى موضوع استهلاك وأداة إهلاك، صارت متاحة تسميته، وبالاستناد الى العربية، بـ”الخطال” بوحي من كلمة “خطل” أي الكلام الكثير والفاسد والمضطرب. وبهذا، يشير الى كونه فسّاداً، وليس فسّاراً لكلام يظهر في إزائه، والى كونه هائماً عن القول في الضروري الى درجة الحماقة، والى كونه عَجولاً، لا سيما عند الطعن والظن. وهكذا، لا يخطبنا الخطاب شيئاً، لا يقربنا أو يمكننا منه، بل يخطلنا باللاشيء، الذي لا يريد أن نراه فيه: “تلفظوا بي، ارموني كيفما اتفق، وستشعرون عندها بالاكتفاء”، أي، وبعبارة واحدة، بالقنوع.

ثمة سبيل ناجع، تمرين فعال عند الإنصات الى “الخطال” الذي تفيض الأفواه به، وهو الرد على تلقيه بـ”حسناً، حسناً، أوكي، أوكي…”، تماماً مثلما علّمنا جيل دولوز حين تحدث عن فعل الاعتراض: “كلما تم اعتراضي، أود أن أقول: متفق متفق، لنمرّ الى شيء آخر”.

ففي حال أخذ المتلقي تلك “الخطالات” على محمل النقاش، أو احتد في إثرها، سيلاحظ أن أصحابها، الذين يتغذون منها، قد رسموا ابتسامة ماكرة على وجوههم، تفيد بـ”أوقعنا بك”، أو “كم انك غبي في اعتقادك بما نتكلم، وفِي اندفاعك الى النقاش حوله”. مثلما أنهم، ولما يصلون الى طريق مسدود في معرض الحديث، يعيدون إظهار تلك الابتسامة، ويضيفون عليها جملة من نوع “اننا نتكلم لنتكلم، اننا نمزح”، فما يريدونه فعلياً هو تنفيذ التصنيف والاتهام، من أجل أن يحسوا بكونهم متميزين، على الرغم من تعاسة هذا التمايز الذي لا يجيدون بلوغه سوى عبر مقارنة أنفسهم بغيرهم بعد زجه في صورةٍ، من سماتها أنها تولد بصحبة نقضها.

فيض من الخطابات، التي تتحول، في هذا السياق، الى خطالات، تتراكم على الألسنة، في الرؤوس، في النظرات، على الوجوه، على الشاشات. كثيرون يتزودون بها، كثيرون يكدسونها، وكثيرون يتزاحمون على إلقائها كيفما اتفق. لكن كثيرين أيضاً، كلما مضوا في استهلاكها وإهلاك غيرهم بها، كلما ابتعدوا عن الوقوع فعلياً على دواعي الإستناد اليها على طريقتهم، أي من دون تمحيص أو تدقيق، ومن دون أن تعبّر عنهم، بل إنها فعلياً تضاعف من توَهانهم.
_______
*المدن

شاهد أيضاً

ليتني بعض ما يتمنى المدى

(ثقافات) ليتني بعض ما يتمنى المدى أحمد عمر زعبار اعلامي وشاعر تونسي مقيم في لندن …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *