*هيثم حسين
يوضح آندي ميلر في بداية كتابه “سنة القراءة الخطرة” أنه كتب قصة حقيقية للسنة التي قضاها وهو يقرأ عدداً من أعظم الكتب وأشهرها حول العالم، ويقول إنه فخور بما حققه في تلك السنة وبالطريقة التي غيرت بها تلك التجربة حياته، ويحاول نقل تجربته إلى القراء.
يشير ميلر في كتابه إنه تعلم قيمة المثابرة من الكتب التي قرأها، ومعنى أن يصمّم على إنهاء شيء بدأه، وإنه صدم بكثير من الكتب التي كانت توصف بأنها عظيمة، ووجدها سيئة وبائسة ومملة، وأخذت شهرتها بناء على اعتبارات ربما لا تتعلق بالجودة والإبداع. كما يعبر عن تأثره بكتاب هنري ميلر “الكتب في حياتي”.
يقول إنه عاش هذا الكتاب ثم فكر في كتابته لسنوات طويلة، ويذكر أن العمود الفقري لكتابه عبارة عن قائمة تحتوي على خمسين كتاباً، وأنه عندما بدأ القراءة كانت القائمة أقل من هذا العدد بكثير، لكنه كان مستمتعاً ولم يستطع التوقف. كما يذكر أن كتابه ولد من محاولة صادقة لقراءة عدد من الكتب التي نجح في تفاديها والتهرب منها لسبعة وثلاثين عاماً قضاها على هذا الكوكب.
يتساءل ميلر عما يجعل أي كتاب له أهميته العظيمة، ويجد أن الحكم يعتمد على الكتاب وعلى المشغل للكتاب، وأن من الضرورة الانتباه إلى أن العظمة تعيد قياس نفسها دائماً باختلاف الأشخاص واختلاف الكتب. لبعض القراء قد تدل العظمة على إتقان ثقافي جامح، مثل عظمة تولستوي أو فلوبير، وللبعض الآخر قد تدل على صرخة المتعة. يجد أن الكتب التي توصف بالعظيمة قد تكون مهمة فعلاً، ولكنها ليست واضحة دائماً أو ممتعة للقارئ.
يظن أن على الكتاب الذي يوصف بالعظيم أن يكون ممتعاً ليصبح عظيماً، وأن بعض الكتب تصبح عظيمة لأن الجميع يقبل عليها، وبعضها تصبح عظيمة بناء على آراء النقاد مع تجاهل آراء العامة. ويلفت إلى أن كل كتاب مذكور في كتابه يمكن أن يعتبر عظيماً بطريقة أو أخرى، إما لأنه ولد عظيماً، حقق العظمة، أو تفاجأ بالعظمة وهي تلقى عليه بطريقة دعائية تسويقية ما.
يصف القراءة بأنها كنيسة واسعة، ولكنها تظل كنيسة. ويعبر عن ظنه أنه كان من سوء حظه وحسنه في الوقت نفسه أنه انشغل بكتابة عمله عن الكتب خلال ما يصفها بثورة من السعار الثقافي. ويجد أن هناك عدداً من القوى المتنافسة تهدد بتغيير الطريقة التي عرفنا بها القراءة، ماذا نقرأ وكيف نقرأ. ويرى أن العقد الأخير أهدانا المدونات، أندية الكتب، مهرجانات الأدب، كل الأحاديث في الشبكات الاجتماعية، وقد نعتبر هذه الإضافات تقدماً، ولكنها ليست التجربة الأصلية ذاتها، إنها ليست القراءة.
يقول إنها تجربة القراءة منحته حياته من جديد، وإنّ كل الأفعال التي يصفها في الكتاب كانت بسبب إلهام مقطع رائع قرأه، وبسبب محادثة طويلة خاضها مع نفسه، ويريد من القارئ أن يضع في اعتباره عندما يقرأ كتابه أنه دفاع مستميت عن عنصرين أساسيين؛ هما الصبر والعزلة، يظن أنهما يواجهان الخطر الأكبر بسبب الرغبة في القراءة أمام الجميع وبصوت مرتفع.
يذكر ميلر أن وظيفته كمحرر للكتب تسببت في تعاسته، يقول إنه عمل مع دار نشر في لندن وجلس أمام أكوام من الأوراق، كانت تتزايد كل يوم، وكان يحاول اختيار الجيد من السيئ، لمعرفة ما يستحق النشر وما يستحق النسيان، ما يمكن إنقاذه بشيء من التعديل، وما يمكن إلقاؤه في سلة المهملات. يقول إنه كاتب، كل يوم لأجل المال يحمل أقدار الكتاب الآخرين في يده، يصف تلك الفترة بأنها كانت نوبة مزمنة من العزلة. وإنه كان يتحلى بالواقعية السياسية في عالم الأدب، وذلك حين يبدي رأيه الصريح الجارح أحيانأً في مخطوطات لأشخاص يندرجون في صفوف المشاهير المكرسين، وحين انتقل إلى العمل في المكتبة والتسويق تعرف على تفاصيل كثيرة متعلقة بهذا المجال.
بدأ ميلر سنته القرائية برواية “المعلم ومرغريتا” لميخائيل بولغاكوف التي يقول بأنها نجحت في إعادته للحياة من الجديد، واستمر سحرها معه لفترة أطول بكثير من فترة قراءتها، ويتساءل أنه لو كان بإمكانه اكتشاف الفراغات في طاحونة الحياة اليومية، أو صنع الفراغات، هل سيتمكن من الحفاظ على الشرارة حية في العالم الحقيقي، وتراه يعبر عن يقينه بأن الصفقة التي عقدها مع القراءة، أو مع الحياة، لم تكن قراءة للمتعة، بل قراءة لحياته.
يضع ميلر قائمة يسميها بقائمة الإصلاح، تبدو منوعة تشتمل على عدد من الكتب الشهيرة التي يفترض أن يكون قرأها لكثرة ما كان يسأل عنها، وفي تعليقه على ظاهرة اشتهار روايات دان براون وانتشارها يقول إن روايته “شيفرة دافنشي” قامت بمراكمة كومة من الأشياء بطريقة سيئة، إلا أنها وبغباء تمكنت من إتقان شيء واحد هو الحبكة. ويعتبر أن دان براون تخلص من كل آثار الأسلوب الكتابي والمصداقية في روايته لأنه أدرك في لمحة من لمحات ليوناردو العلمية أن الأسلوب والمصداقية كانا ما يمنعان قصته البالونية المبنية على النظريات من التحليق. وهكذا تخلص من آثار الأسلوب والمصداقية، وتخلص معهما من الجمال والحقيقة، وخمسمئة سنة من الكتابة الأدبية.
يدخل ميلر في نقاش معمق مع ذاته، يلفت إلى أن إحدى المسلمات التي وجد نفسه يشكك فيها كانت إيمانه بالفن، وأنه منذ طفولته لم يشك للحظة أن الكتب العظيمة، الموسيقى الخالدة، أو الأفلام العبقرية، هي شروط مسبقة لوجود كامل ومتوازن. وأن وجود الفن في حياته منذ مراهقته وحتى بلوغه كان دائماً وضرورياً لدرجة عدم قدرته على تصور غيابه حينها، لكنه بدأ يتساءل عن الولاء وما إن كان يحمل أي معنى يتجاوز الوجود الحسي لما كان يمتلكه من كتب وأفلام خزّنها في صناديق يعلوها الغبار.
ويعترف أننا نعيش في عصر أصبح الرأي فيه عملة، وأننا نواجه ضغطاً مستمراً لنصرح بآرائنا “أعجبني هذا الشيء” أو “لم يعجبني”، لنطلق آراء سريعة ونلصقها على بطاقاتنا الائتمانية، ولكن عندما نواجه شيئاً لا يمكن الحكم عليه بسرعة، علينا إمتلاك التواضع الكافي للاعتراف بعدم الفهم وضرورة المحاولة من جديد.
(*) منشورات كلمات، الكويت، محمد الضبع 2016. ويقدم الكتاب عناوين من نوع “موبي ديك” لملفل، “الحرب والسلام” لتولستوي، “المعلم ومارغريتا” لبولغالكوف، “ميدل مارش” لجورج إليوت، “الجريمة والعقاب” لدوستويفسكي، “الفردوس المفقود” لجون ميلتون، “محبوبة” لتوني موريسون، “ملحمة غلغامش”، “مكتب البريد” لبوكوفسكي، و”البيان الشيوعي” لأنغلز وماركس، “البحر… البحر” لآريس مردوخ… وتخلو القائمة من الكتب العربية.
______
*المدن